الرأي

يوسف عبدالله.. رحيل الآثاري الوقور في صنعاء التي يحبها

د. سليمان الذييب

كاتب وباحث وأكاديمي سعودي

يوسف محمد عبدالله علم من أعلام الباحثين في اليمن الشقيق وفاته المنية هذا الشهر يوم الإثنين 5 إبريل في المدينة التي عشقها وعشقته، عاصمة اليمن العريقة “صنعاء” وكأنها -وهي التي عاش فيها لما يزيد على أربعة عقود متنقلا في وظائف عدة منها مستشارا ثقافيًا لرئيس اليمن السابق “علي عبدالله صالح”- قالت له: “ارجع من منافك الذي اخترته عاصمة أم الدنيا القاهرة، فلن تموت ولن تدفن إلا تحت ترابي”، واردفت: “فقد كتبتَ عني كعاشق متيم؛ مع مبالغتكَ أحيانًا في مدحي يا يوسف”.

عاد الدكتور “يوسف عبدالله” قبل عدة أيام من منفاه الذي اختاره وهي عاصمة أم الدنيا القاهرة، بهدف زيارة الأحبة والاطمئنان عليهم، محاولًا تناسي أن النظام الجديد لاحقه وطرده من مسكنه في الجامعة التي خدمها قبل سنتين أو ثلاث.

لكن عشقه لبلده دفعه دفعًا إلى العودة مع المشقة التي تكبدها في هذه الزيارة، فإضافة إلى بلوغه (٧٧) عامًا فقد كانت صحته لا تساعده ابدًا على السفر الشاق، وكل هذا لم يثنيه عن زيارة معشوقته صنعاء ووطنه، الذي جرت محبته له في عروقه كجريان الماء في أودية اليمن.

ويعود سبب اختياره الاستقرار في مدينة السلام القاهرة عاصمة أم الدنيا إلى ردة فعل الحوثيين التي لم تترك أحدا في حاله فناله منهم ما ناله مع بقية أبناء اليمن من ملاحقات ومطاردات وتصفيات؛ ولأن النفس تحب

الحياة استقر رأيه على مغادرة أرضه ووطنه وأهله وأحبته، متخذا من ايمانه بالله وبما كتبه له طريقا لحياته.

والواقع ما أحزنني وألمني هو موقف رفاقه في الخليج العربي فمع علاقته الوثيقة بهم إلا أنهم تركوه في سنواته الأخيرة يعاني ماعانه، ولو كان الدكتور “عبدالرحمن الأنصاري” في عافيته لما اضطر “عبدالله” إلى ترك شبه الجزيرة التي أحبها وأحب تاريخها وآثارها؛ فمعادن الرجال لا تظهر إلا في الشدائد.

تعود معرفتي الشخصية بيوسف عبدالله إلى أكثر من ثلاثين عامًا، وتحديدًا بعد عودتي من البعثة، وزيادة اهتمامي بالكتابات الصفائية، فعرفته من خلال رسالته للماجستير، الأكثر تميزا من رسالته للدكتوراه والأخيرة من جامعة توبنجن الألمانية، تناول فيها دراسة عن: “أسماء الأماكن عند الهمداني”.

أقول تعرفت عليه من خلال رسالته التي زادت نقوشها عن المائة عَثَر عليها أو حصل عليها الباحث الأردني المرحوم “محمود الغول”، من مدينة عرعر في المملكة العربية السعودية، وقدمها له ليقوم بدراستها في الجامعة اللبنانية في بيروت منارة الفكر (قبل سيطرة الميليشيات الطائفية).

وبعد سنوات قليلة من عودتي ألتقيت به بطلب منه في رغبة كما قال: “ان التقي بهذا الشاب الذي يتحفنا بدراساته”، ومنها أصبحتُ ملازما له في عدد من زياراته المتكررة خصوصًا عند تجواله في أسواق بيت العرب مدينة الرياض، فقد كان حريصا عل اقتناء ما في هذه الأسواق من معروضات لا تتوفر في بلده الحبيب اليمن أو أنها أقل سعرا.

وأول لقاء رسمي لي معه كان أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه التي أعدتها الدكتور “نورة بنت عبدالله النعيم” عن القوانيين في اليمن القديم؛ وهي بالمناسبة رسالة تعد “بايبل القوانيين اليمنية القديمة” وإن تعرضت من عدد من الأخوة الباحثين في اليمن وخارجه إلى السطو أو القص واللزق إلا إن أحدا لم يتمكن من اجتيازها. وأذكر وقتها سعادته الغامرة ببحث أنصف المجتمع اليمني القديم بأسلوب علمي راق كما قال.

وفي تلك المناقشة تعرفتُ عليه وتعرف عليّ فكانت علاقة أبوية منه لشخصي، وعلاقة ود وارتباط دام لعقود، وإن شابها خلال مناقشاتنا خلافات في الجانب السياسي.

فقد كان رحمه الله رجلا ناضجا حليما محبا لبلده ولتراثه العربي صادقا في علاقاته.

واليوم افتقدنا برحيله ذلك الرجل الشهم والباحث المتنوع، سرقه -كما سرق الرعيل الأول- العمل الإداري والسياسي.

وما ألمني واحزنني هو تخلي رفاقه في آخر عمره عن الوقوف إلى جانبه الذين تناسوا (أرحموا عزيز قوم ذل)، رغم قدرتهم عل الوقوف في شدته ومواساته خصوصا في مرضه.

عاش يوسف عبدالله كآثاري مدلل في عهد علي عبدالله صالح فتقلد عدد من المناصب ونال منها عداوة البعض لاعتقادهم أنه (مثل الرعيل الأول) استغل هذه المناصب لمصلحته الشخصية.

لا أقول يا شيخي الوقور وأنت بين يدي ربك إلا رحمك الله وأسكنك فسيح جناته وجعل ما أصابك طهورا لك.

يا رب يا رحيم تقبل عبدك “يوسف عبدالله” وأنزله مع الصديقين والشهداء، وسامحه وحلله، فإنه بين يديك يا أرحم الرحمين.

وسامحنا يا شيخنا الغالي على تقصيرنا في حقك، وتركك في أيامك الاخيرة تصارع الأمراض ومشاكل الحياة.

وأسأله عز وجل أن يجعل ما تركته من أرث في ميزان حسناتك إنه سميع مجيب الدعاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *