خربشة ومغزى

” الأحساء .. بحر النخيل “

أحمد بن عبدالله الحسين

الأحساء
سحر الأساطير أو بحر من النخيل، تأسر قلوب زوارها كما تلف بالشوق أفئدة أبنائها. تفاجئ القادمين إليها بسحر البسمة وعذوبة الكلمة وكرم الضيافة، حتى لترخي النخيل أعنتها أمام القادمين. وهي أرض النوافير، تفور منها العيون على مقربة من مياه البحر المالحة، تُشبع مِياهها الحقول والزرع.

الأحساء حاضنة
للأدب والعلم، تعبّق إرثها بمحامد، وتربع على صرحها تاريخ ذاخر في القديم والحديث.الأدب والشعر تنادى بأرضها وصدح به شعراؤها، تجد ذلك مسطّرا في كتاب “تحفة المستفيد” للشيخ محمد العبدالقادر، هكذا هي ازدانت عبر العصور.حتى رُوي أن جغرافيتها احتضنت وُلِادَة طَرَفة بن العبد البكري، الشاعر الفذ، أحد شعراء المعلقات، والذي وصفه بديع الزمان الهمداني بأنه “ماء الأشعار وطِنيتُها وكنز القوافي ومدينتُها، مات، ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تُفتَح أغلاق خزائنه”.

هجر
مسمى سابق للأحساء ضمن ما يسمى البحرين قديما، والبحرين اسمٌ أُطلق فيما سبق لبلاد شاسعة بين البصرة وعُمان تُصاقب الخليجَ العربيّ، وهجر عاصمتها وموطن لبني عبد القيس وهَمَ من أسد بن ربيعة القبيلة العدنانية المشهورة.

أرض الأحساء
صالحة لأطايب النبات والثمر، بل تُكفل رزق الإنسان من الأرض، وهي فردوس ترقد بين ساكنيها.

ياقوت الحموي
المُتوفى عام 1229م أخبرنا في “معجم البلدان”: ” أن الأحساء هي جمع حِسْي وهو الماء الذي تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر العرب عنه الرمل فتستخرجه، والأحساء مدينة بالبحرين معروفة مشهورة”.لذلك هي واحة في الجزيرة العربية وهي مهد للشعوب السامية الذين يشكلون بداية الانطلاقة للتشكيل البشري لإنسان الخليج العربي.

هجرات القبائل السامية
قذفت شمالاً وشرقاً ، بل منها ما تشكل في الأحساء، وهي إحدى محطات تلك الهجرات، ومنهم من توطن في غيرها من البلدان عابرة إلى الهلال الخصيب وحوض المتوسط .

الفينيقيون
وهم اسم أطلقه الإغريق على الكنعانيين، أهل سبق في هذه الهجرات؛ إذ كانت هجرتهم لشواطئ الخليج العربي حوالي 2500 ق.م، وهم من توطنوا في الساحل الأحسائي قديما.
تحكي المقابر العديدة التي وجدت في هذا الساحل وفي جزر البحرين آثارهم .المتحف البريطاني أحد أهم المحاضن لهذه الآثار.
الفينيقيون الكنعانيون هم من اخترع الحروف الهجائية. ومن ساحل الخليج العربي هذا انتقل الفنيقيون إلى ساحل البحر المتوسط وبنوا مدن صور وصيدا وجبيل وعلموا الناس تجارة البحر.

وفي ساحل الأحساء
استقر بعد الفينقيين (الجرهائيون)، وهم فرع من الكلدانيين أهل بابل. وقد كانت الأحساء وساحل الخليج الشرقي منطقة استيطان بشري عبر التاريخ؛ حيث كانت تتوسط مراكز الحضارات في العالم القديم.

وقد عرف هذا الساحل الشرقي
بإقليم البحرين وعاصمته هجر، حتى جاء القرامطة سنة 286هـ وبنوا الأحساء وعمروها وجعلوا منها عاصمتهم ، وامتد الاسم ليشمل الإقليم بأكمله وظل الإقليم يحمل هذا الاسم إلى عهد قريب حين استحدث نظام المناطق في المملكة العربية السعودية ليتحول الاسم إلى المنطقة الشرقية وينحصر اسم الأحساء على المحافظة.

الأحساء
تُعد أكبر واحة نخيل عربية أطلق البعض عليها لقب بحر النخيل أو بحر من نخيل؛ لأنها تضم على أراضيها مساحات هائلة من النخيل؛ حيث يربو عدد نخيلها على 3 ملايين نخلة. والأحساء مترامية الأطراف تحيط بها الرمال من جهاتها الأربع وكأنها بهذا التكوين الطبيعي قد صنعت حضناً للحياة وسط الموت الصحراوي القاحل.

وصف مدينة الأحساء
المؤرخ اليوناني بوليبيوس المتُوفي عام 120 ق.م موضحا:” أنها كانت من المراكز التجارية الهامة وسوقاً من الأسواق النشطة في بلاد العرب وملتقى لطرق القوافل الواردة من جنوب الجزيرة العربية ومن الشام والحجاز والعراق والهند، وأن سكانها من أغنى شعوب الجزيرة. وكان عماد ثروتهم الذهب والفضة مما حرك الطمع في نفس الملك السلوقي أنطيوخس الثالث فقاد أسطوله في عام 205 ق.م قاطعا به دجلة متوجهاً إليها ليستولي على كنوزها. ولكن أهلها خوفاً منهم على مدينتهم وحباً منهم للسلام وحفاظاً على حريتهم التي كانوا يعتزون بها أرسلوا إليه وفداً يحمل هدية كبيرةً من الذهب والأحجار الكريمة وحملوا معهم إليه رجاءهم بأن لا يحرمهم من نعمتين أنعم الله عليهم بها نعمة السلام والحرية.

فقبل أنطيوخس
الهدية وقفل عائداً إلى بلاده، وربما كانت الصحراء القاحلة وماتحمله المغامرة عبر مفاوزها السبب الرئيس الذي أقنع الملك السلوقي بالعودة عن عزمه”.

وعندما ظهر الإسلام
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الإقليم العلاء بن عبد الله الحضرمي الذي استطاع إقناع حاكم هجر آنذاك (المنذر بن ساوى) بالدخول في الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل له مع العلاء رسالة هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى
فإني أحمد الله لا إله إلا هو
أما بعد:
فإن من صلى صلاتنا ونسك نسكنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم له ما لنا وعليه ما علينا له ذمة الله ورسوله، ومن أحب ذاك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية.
وظلت بلاد البحرين وفيها الأحساء تتبع مقر الحكم في الدولة العربية الاسلامية في الحجاز أو في الشام أو في بغداد إلى أن ظهر فيها رجل يسمى أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي قدم من جنابة بفارس.

سنة 286 هـ-899 م
استطاع الجنابي أن يقود ثورة القرامطة التي أغار على هجر فاحتلها في عهد (المعتضد) العباسي وعاث في الإقليم فساداً. ثم جمع جيشاً من أتباعه وزحف بهم على البصرة سنة 311 هـ/923 م واحتلها ونهبها ثم عاد إلى الإقليم ولكن غزواته للعراق تعددت بعد ذلك. ابي سعيد الجنابي وابنه من بعده أبي طاهر ابتنى مدينة تبعد ميلان بجانب مدينة هجر سماها ‘الأحساء”وهي التي نمت وأصبحت قاعدة البلاد وكانت من أعظم بلاد البحرين وظلت هجر الاسم التاريخي ومن مدينة الأحساء التي بناها القرامطة أخذ الإقليم اسمه فيما بعد.

عام 317 هـ/929م
زحف زعيم القرامطة أبو طاهر إلى مكة، وقتل من فيها من حجيج ذلك العام خلقاً كثيراً، واقتلع الحجر الأسود، وعاد به إلى الأحساء وبقي في إحدى قراها حتى عام (339 هـ/950 م)؛ حيث أُعيد إلى مكة المكرمة بعد موت أبي طاهر.

لقد كانت الأحساء في ظل القرامطة مركزاً زحف منه هؤلاء إلى العراق والشام ومصر وأثاروا الرعب في قلوب المسلمين في تلك البلدان.

ثم تتابع
على حكم الأحساء كل من العيونيين، وآل زامل الجبري وال مغامس وغيرهم، ثم جاء البرتغاليون فاحتلوها حوالي 927 هـ/1520 م وظلوا يحتلونها حتى تمكن الأتراك العثمانيون من طردهم وإخراجهم منها حوالي عام 958 هـ/1551م ومنذ استيلاء الأتراك على هذا الإقليم ارتبطت الأحساء مع شقيقتها القطيف بتاريخ سياسي واحد وانفصلت عنهما جزيرة أوال التي استقلت باسم البحرين.

الأحساء
كما تكتنز على أرضها زروع وثمار ونخيل، كَذَلِك تذخر في باطنها وما امتد منها الذهب الأسود والغاز عماد الطاقة الذي يخدم البشرية. كذلك الأحساء حاضنة للأدب والعلم وتنوع مدارس الفقة والتعايش، وطيب المنادمة الذي تتزين فيه مجالسها.
كَالغصن كُلَّمَـا تَحمَّـــلَ أثْمَــاراً
تَـواضَع وانْحَـنىَ ليعلوا صدى آحاد الناس بالقول؛
إني لتطربني الخلال كريمةً
طرب الغريب بأوبِة وتلاقِ
ويهزني ذكر المروءة والنَدى
بين الشمائل هزّةَ المُشتاقِ

الأحساء
تشرفت في منزل طيني قديم بأن نسجت كسوة الكعبة المشرفة 8 مرات كان آخرها في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز عام 1343هـ قبل أن تنتقل إلى مكة، وبهذا تعتبر الأحساء أول مدينة سعودية نسجت كسوة الكعبة.

ختاما..
الأحساء في دورها وأثرها، تكتمل وتكمل مع أقاليم ومدن المملكة بهاء عقد يتلألأ حبا وولاءا حيث تراسل الوطن، كما قال مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خير فيمن لا يحبّ بلاده
ولا في حليف الحب إن لم يتيم

ردان على “” الأحساء .. بحر النخيل “”

  1. يقول د. محمد عبدالرحمن الدوغان:

    مقال جميل شكرا لمن اورده وكتب عن الاحساء وحكاية المدينة التي اشرقت عليها الشمس

  2. يقول عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحسين:

    مقال جميل و ثري بالمعلومات و يشوف إلى زيارة الأحساء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *