الرأي

مخرجات التعليم وقرارات التغيير!

حنان الحمد

كاتبة وباحثة في مجال الاستشارات التربوية والتميز المؤسسي

مخرجات التعليم والعولمة

إن مناسبة مخرجات التعليم لسوق العمل قضية تشغل حكومات العالم أجمع، لما لرأس المال البشري من أهمية في اقتصاد المعرفة، ونظرا لتغلغل العولمة إلى مفاصل دول العالم، أصبح هناك “قولبة” و”نمذجة” لمفهوم الأفضل والأكثر تقدما والأحدث والأكثر تطورا فيما يخص التعليم، وتستند هذه النمذجة على ما تُصدره منظمات دولية متنوعة من تقارير لتزود دول العالم بمؤشرات ومقارنات مرجعية بين مخرجات النظم التعليمية في مختلف الدول وفق مهارات ومعارف بعينها منها القراءة والعلوم والرياضيات ، وزادت بعض المنظمات قياس المهارات الحياتية مثل حل المشكلات واتخاذ القرار لمواجهة تحديات الحياة في مراحل عمرية مختلفة، ولعل بعض المختصين حول العالم تناولوا تلك الاختبارات بالتفصيل ما لها وما عليها في مقالات عدة.

ما يهم في سياق هذا المقال هو كيف وظفت الجهات المختلفة نتائج تلك الاختبارات على مستويات مختلفة، فها هو رئيس برنامج التنمية البشرية للبنك الدولي بدول مجلس التعاون الخليجي يكتب في مدونة البنك الدولي – مرسخاً لفكرة ضعف مخرجات التعليم وعدم مناسبتها لسوق العمل عالميا – التالي: “على الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي قد أدركت أهمية رأس المال البشري، فإنها تستطيع أن تفعل المزيد. إذ تحتل الدول الست مرتبة أعلى على مؤشر رأس المال البشري من المتوسط في ​​منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ككل، ولكنها أقل من نظيراتها في المناطق الأخرى ذات المستويات المماثلة من نصيب الفرد من الدخل ويشير هذا الترتيب النسبي إلى أن نواتج التعلم الضعيفة ………….. دول مجلس التعاون الخليجي تواجه أربع تحديات رئيسية في تنمية رأس مالها البشري: انخفاض مستويات الكفاءة الأساسية بين أطفال المدارس: على الرغم من ضخامة الاستثمار العام في التعليم، فإن جميع الدول الأعضاء الستة في المجلس تسجل درجات أقل من البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع في التقييمات الدولية للطلاب. ………… .عدم التوافق بين التعليم وسوق العمل: المهارات التي يتعلمها الطلاب في المدرسة لا تؤهلهم التأهيل الملائم بالمهارات اللازمة للتشغيل. …. إلخ”.

لقد استخدم مسؤول البنك الدولي في مدونته نتائج الاختبارات الدولية القائمة على المقارنات المرجعية مع دول تختلف عن دول الخليج العربي وتختلف عن بعضها البعض ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، حيث يتصدر بعضها العالم برأس المال البشري عددا، بينما دول أخرى عدد سكانها يوازي عدد سكان مدينة الرياض، عدا عن أن أنظمة استقبال المهاجرين واستقدام العمالة الصارمة في البعض الآخر يخلق مقارنة تغيب عنها ضوابط المقارنات المنهجية من ناحية المتغيرات التي تؤثر على مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، ومن تلك الدول بعضها احتلت الصدارة في الاختبارات الدولية PISA وهي الصين وسنغافورة واستونيا وكندا وفنلندا، كذلك الولايات المتحدة الأمريكية كأحد أقوى الاقتصاديات في العالم وألمانيا الماكينة الصناعية التي لا تتوقف.

ويُستدل من حديث المسؤول أن القيمة السوقية لمخرجات التعليم السعودي لن يكون عليها طلب في أي دولة كانت استنادا لمثل هذه التحديات التي يرسخها البنك الدولي ألا وهي ضعف مخرجات التعليم التي لا تلبي متطلبات سوق العمل، وبالتالي فإن باب الاستقدام من دول العالم الثالث للعمل في دول الخليج لابد أن يظل مفتوحا على مصراعيه لحين رفع كفاءة المخرجات لتناسب متطلبات سوق العمل الخليجي أو كما ذكر المسؤول في مدونته.

قرارات يغيب عنها التأني!

أما على المستوى الوطني، فقد كانت نتائج مشاركة المملكة العربية السعودية في الاختبارات الدولية PISA لأول مرة عام 2018م ساخنة جدا، حيث لخصها الكاتب سليمان العنزي بمقاله الجميل بعنوان “تراشق غير تربوي بين التعليم والتقويم وإهمال تدني النتائج”، وتبعه قرار أكثر سخونة من وزارة التعليم، وهو اعتماد نظام تعليمي جديد للمرحلة الثانوية – استندت الوزارة في هذا التغيير السريع والحاسم والجذري وفق تصريحها على العديد من المرتكزات أحدها نتائج اختبارات PISA – هذا نصه: “اعتمد إقرار المشروع على عدد من العوامل والنتائج الواقعية التي أشارت إلى وجود فاقد تعليمي يصل إلى ٣- ٤ سنوات في المرحلة التعليمية لطلاب التعليم العام بالمملكة مقارنةً بدول العالم، وانخفاض أداء الطلاب في الاختبارات الوطنية والدولية، كما وُضع في الاعتبار نتائج الدراسات المرتبطة بمدى استعداد الشباب السعودي لسوق العمل ووظائف المستقبل، والتوجه التقليدي لالتحاق ٧٢٪؜ من الطلاب بالتخصصات النظرية في الجامعات، وهو ما لا يتسق مع التوجهات المستقبلية لسوق العمل، ووضع آليات لمعالجة ذلك وفق التوجهات العالمية.”، وأُقر برنامج “مسارات الثانوية العامة والأكاديميات المتخصصة” الذي سيبدأ تطبيقه اعتباراً من العام الدراسي ٤٣- ١٤٤٤هـ – الذي يذكرنا بسرعة تطبيق مشروع التقويم المستمر على المرحلة الابتدائية بين ليلة وضحاها ودفع ثمنه أبناءنا على مدى 15 عاما، ونفد من أقره بجلده دون تحمل أي تبعات للضعف الذي يعاني منه أبناءنا وانعكس على نتائجهم في الاختبارات المحلية والدولية.

البرنامج السحري..

أُقر برنامج “تطوير مسارات الثانوية العامة والأكاديميات المتخصصة “بسرعة البرق، ويخيل للقارئ لوهلة عندما يطلع على أهداف البرنامج، أنه العصا السحرية التي ستخَرج طلابا خارقين لسوق العمل المحلي والدولي، ويُلاحظ أنه تبنى توجه اختبارات PISA في تهميش مخرجات التعليم في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والثقافية والتقليل من دورها، وعندما تم تحديد متطلبات التنفيذ أقر تحديد الكوادر البشرية اللازمة للتنفيذ، ليتم اختيار مشرفا عاما على هذا البرنامج التنفيذي تميز بأنه كان مهاجما شرسا للوزير السابق وتبنى نشر توجه المظلومية بين المعلمين والمعلمات طوال سنوات تولي الوزير السابق تجاه أي قرار يصدره، حيث كان كل قرار محط انتقاد وإثارة للوسط التعليمي من قبله، ليتصدر المشهد بعد ذلك كمستشار للوزير الحالي بالإضافة للإشراف على هذا البرنامج، ماسحا كل ما خطته أصابعه في حسابه التويتري، فمشروع مصيري كهذا يقرر مستقبل أبناءنا الوظيفي ما الذي سيضيفه له هذا المشرف؟ هل ستتكرر تجربة التقويم المستمر لا سمح الله؟!

الاختبارات الدولية تحت المجهر

إن الاختبارات الدولية وأبرزها اختبارات PISA التي تشرف عليها منظمة الاقتصاد للتعاون والتنمية OECD مقرها فرنسا، تؤثر بشكل كبير على قرارات المنظمات التعليمية وتستخدمها كمرتكز للقيام بالتغيير، كما حدث في كثير من الدول العربية مثل تونس وكما يحدث الآن في السعودية، وهذا يستوجب الوقوف على مدى مصداقية تلك المؤشرات لتعتمدها الدول كمسلمات تستوجب الحكم القاسي بضعف مخرجات التعليم فيها وعدم ملائمتها لسوق العمل، ومن ثم يبدأ التغيير السريع والحاسم دون دراسة متأنية.

فقد تساءل بعض الكتاب الأمريكيين حول ما تدعيه OECD، بأن التعليم هو الطريق نحو الاقتصاد المزدهر، ولماذا تعتبر الدول نتائجها كتابا منزلا، وتوجه المنظمة الدول لتؤمن بأن التعليم الكفؤ ينتهي باقتصاد قوي عالميا، حيث ظهر سؤال محير بالنسبة لهم وهو لماذا لا يحقق طلاب الولايات المتحدة الأمريكية مراكز متقدمة في اختبارات PISA بينما اقتصادهم يقود اقتصادات العالم أجمع؟! وأضيف تساؤل آخر وهو أين فرنسا البلد المضيف لمقر المنظمة عن المراكز المتقدمة في تلك الاختبارات؟

هناك ادعاءات أوردتها الكاتبة فاليري شتراوس في مقالها بعنوان “كيف خلقت PISA وهمًا بجودة التعليم وتسويقه للعالم”، نشرته في الثالث من ديسمبر 2019م، فيما يلي بعض المقتطفات:

– ظلت الدرجات في الولايات المتحدة راكدة منذ أن انضمت لاختبارات PISA منذ ما يقرب من 20 عامًا – وكما في الماضي، سيُنظر إليها على أنها إدانة لكل ما يريد الناس اتهامه بهذا الضعف: المدارس والمعلمين والطلاب، والإصلاحيين الذين حاولوا تغيير المدارس العامة من خلال إدارتها مثل الشركات.

– كانت الصين الأولى في العلوم والرياضيات والقراءة في الاختبارات ـ PISA التي طبقت على مقاطعات بكين وشنغهاي وجيانغسو وتشجيانغ فقط (على الرغم من أن البلاد بها أكثر من 20 مقاطعة)، واحتلت سنغافورة المرتبة الثانية في جميع المواد الثلاثة.

– في عام 2014، دعا أكثر من 100 أكاديمي من جميع أنحاء العالم إلى تجميد اختبارات PISA، وكان من بين الأسباب: أنها تغذي الاعتماد المفرط على الاختبارات المعيارية والتركيز على التعلم الذي يمكن قياسه بسهولة، ويقول بعض الخبراء إن هذه الاختبارات لديها عيوبًا في كيفية إدارتها، وكيفية تحديد عينات الطلاب، وكيفية كتابة أسئلة الاختبار.

– نشر يونغ زهاو، أستاذ في كلية التربية بجامعة كانساس، منشورا بعنوان “هناك دعوة جديدة للأمريكيين لتبني التعليم على النمط الصيني. هذا خطأ فادح ” وكتب “عقدان من الخراب: توليفة من النقد ل PISA.

– تنبع القوة السحرية لاختبارات PISA في عالم التعليم من ادعاءاتها الجريئة وتسويقها الناجح مستفيدة من القلق العام بشأن المستقبل، حيث يهتم البشر بطبيعة الحال بالمستقبل ولديهم رغبة قوية في معرفة ما إذا كان الغد أفضل من اليوم.

– تقدم اختبارات PISA ادعاءً مغريًا لواضعي السياسات التعليمية وهو: من خلال هذه الاختبارات للمعرفة والمهارات في نهاية مرحلة التعليم الأساسي، يمكن الكشف عن درجة استعداد الشباب للعيش كبالغين ومدى فاعلية أنظمة التعليم، وتخبر اختبارات PISA إذا كان الأطفال مستعدين للحياة المستقبلية وكيف يمكن السيطرة عليها من خلال تحسين عملية التعليم، وبالتالي إذا تم تشجيع المدارس وأنظمة التعليم على التركيز على التحديات الحديثة سوف يكون هناك حاجة دائمة إلى اختبارات PISA.

– لا يوجد دليل يبرر، ناهيك عن إثبات، الادعاء بأن برنامج التقييم الدولي للطلاب PISA يقيس بالفعل المهارات الضرورية للحياة في الاقتصادات الحديثة، إذ تفرض هذه الاختبارات وجهة نظر الغرب حول المجتمعات على بقية مجتمعات العالم. وهذا يشوه الغرض من التعليم.

– الادعاء بأن برنامج تقييم الطلاب الدولي PISA يقيس المعرفة والمهارات الأساسية للمجتمع الحديث أو العالم المستقبلي لا يستند إلى أي دليل تجريبي، إذ أن الادعاء مجرد خيال، لكن نجحت PISA في إقناع الناس من خلال التكرار.

– جعل جميع دول منظمة الاقتصاد للتعاون والتنمية تعزز متوسط ​​درجاتها في PISA بمقدار 25 نقطة على مدار العشرين عامًا القادمة … يعني تحقيق مكسب إجمالي من إجمالي الناتج المحلي للمنظمة وهو 115 تريليون دولار أمريكي على مدى عمر الجيل المولود عام 2010م”.

– وجدت الدراسات التي قارنت درجات الاختبار مع النمو الاقتصادي في الفترات اللاحقة باستخدام نفس مجموعة البيانات والطريقة أنه لا توجد علاقة “قوية مستدامة ولا متسقة بدرجة عالية” بين درجات الاختبار والنمو الاقتصادي و “أن العلاقة بين التغييرات في درجات الاختبار في فترة واحدة والتغيرات في النمو الاقتصادي للفترات اللاحقة لم يكن واضحًا، مما أدى إلى إبطال الادعاءات الواردة في التقرير.

– المجتمعات مختلفة عن بعضها البعض. لأسباب عدة منها الثقافية، والسياسية، والدينية، والاقتصادية، إذ تعمل المجتمعات المختلفة بشكل مختلف وتواجه تحديات مختلفة، تتطلب مواجهتها معارف ومهارات مختلفة، نتيجةً لذلك يصعب الافتراض أن الأشخاص البالغين في عمر 15 عامًا – على سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وتركيا والمكسيك والنرويج – يواجهون نفس التحديات وأنهم بحاجة إلى مهارات وكفاءات حياتية متطابقة.

– تقييم واختبارات (PISA) مخصصان للبلدان الغنية والمتطورة من أعضاء منظمة الاقتصاد للتعاون والتنمية. فعند استخدام هذه الأداة كمعيار في أكثر من 30 دولة غير الأعضاء في المنظمة لتشارك في برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA)، يظهر جليا عدم تطابق اختبار PISA مع احتياجات الدول من غير الأعضاء وشبابها.

– الهدف من التعليم في العديد من البلدان ليس مجرد إعداد كائنات اقتصادية، بل يتعداها للمواطنة، والتضامن، والإنصاف، والفضول والمشاركة، والرحمة، والتعاطف، والقيم الثقافية، والصحة الجسدية والعقلية، بالإضافة لبقية أهداف التعليم الوطنية، لكن هذه الأهداف غالبًا ما تُنسى أو يتم تجاهلها عندما تتم مناقشة جودة المدرسة أو النظام التعليمي وفق معايير ودرجات وتصنيفات PISA.

– خلق توجه يرسخ للتجانس العالمي لأنظمة التعليم والاحتفاء بأنظمة التعليم الاستبدادية في سبيل الحصول على درجات عالية في PISA، متجاهلين الآثار السلبية لهذا التوجه على السمات الإنسانية المهمة والثقافات المحلية لهذه الأنظمة.

 

لتأخذوا نفساً!

أتفق مع كثير مما ورد في طرح السيدة شتراوس، الذي تناول غياب منهجية تجريبية عن اختبارات PISA الدولية، والتي صممت للدول أعضاء منظمة OECD، ويبدو أن هذه الاختبارات أغفلت الكثير من الجوانب الإنسانية والمهارات الفنية والهوية التي تميز كل مجتمع عن الآخر.

عليه يظهر تساؤل موجها لوزارة التعليم السعودية وهو “كيف يتم اتخاذ قرار مصيري يؤثر على مستقبل طلاب المرحلة الثانوية أحد مرتكزاته نتائج اختبارات دولية تمت المشاركة فيها لمرة واحدة فقط، وهل تمت دراسة المخاطر المحتملة التي قد تترتب على التسرع في مثل تلك القرارات؟ خاصة أن أبناءنا كانوا ضحايا نظام التقويم المستمر.

من ناحية أخرى فإن الوزارة تغص في المبادرات وتعج بشركات التطوير والميزانيات المليارية التي تصرف عليها، إذا لماذا لا تلتقط أنفاسها لترتب أولوياتها وليمنح التطوير أجازة ليلتفتوا لتقييم الوضع الحالي وإعادة ترتيب أوراقها.

ختاما: أتمنى أن نؤمن بأن مخرجات تعليمنا تلائم سوق العمل خاصة مع وجود هذا الكم الهائل من الهيئات والمبادرات التي تتبناها الجهات المعنية لتأهيل أبناءنا للسوق، ولنقلل الهدر البشري والمادي ولندخر الوقت والجهد للاستفادة من المبادرات والبرامج الحالية.

رد واحد على “مخرجات التعليم وقرارات التغيير!”

  1. يقول احمد بن عبدالله الحسين:

    مقال غزير ثري أُشبعت عناصره .. شكراً لك .. وللمزيد من هذا العمق ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *