الرأي

درس سياتل: سلوكيات الرجل الأبيض تصنع انطباعات الرجل الأسود

د. طلال المغربي

أكاديمي ومستشار في التسويق الاستراتيجي

أميركا أرض الأحلام للشباب من حول العالم للسفر والهجرة إليها، فهي بمثابة  الأرض الموعودة والقوة السياسية والاقتصادية والصناعية، وواحة التعليم والأبحاث، ومستقبل أودية الابتكارات والتقنيات لرواد الأعمال وعالم الأفلام. هذه هي العلامة الوطنية الحلم الذي صورته وغرسته القوى الناعمة الأميركية في عقول الشباب لكي يحلم بنمط الحياة والحرية والديمقراطية.

تشير نظرية Expectation Confirmation Theory أن الرسائل الموجهة المباشرة وغير المباشرة تشكل لدى الإنسان انطباعات وتوقعات، ترديدها يصنع انطباع وصورة ذهنية مسبقة عن الآخرين تستمر معنا هذه الانطباعات الإيجابية أو السلبية حتى يتم إما تأكيدها أو نفيها من خلال التجربة أو استقبال رسائل موجهة مختلفة وهي ما تعزز لدينا الاستمرار في سلوك محدد. آلة القوة الناعمة ترسم نمط محدد عن عادات وألوان وأطياف وجنسيات ودول فيعززها الإعلام وتنسجها الأفلام في عقولنا الباطنة لتشكل انطباعاتنا المسبقة عنهم من قبول و رفض أو محبة وخوف من جنسيات وأعراق وأديان وألوان مختلفة من البشر.

أزمة فيروس كورونا ضربت العالم ولم تميز بين الدول القوية والضعيفة، وبين معتقداتهم أو ألوانهم البشرية التي لم يكن لهم دور في اختيارها. تشير الإحصائيات العالمية بأن الفقراء هم أكثر المتضررين من فيروس كورونا. قناتا سي إن إن و بي بي سي أفردت حلقات نقاش عن أسباب تضرر الفقراء وذوي البشرة السوداء بشكل أوسع من غيرهم؟

الطبقة المجتمعية الوسطى والعاملة الفقيرة في أميركا تعاني من تدني الدخل المادي وعدم قدرتها على الحصول على تأمين طبي ومعظم الأعمال التي يقوموا بها أعمال ضرورية لاستمرار الحياة خلال أزمة كورونا فكان الفقراء هم الدرع الأول في مواجهة كورونا من عمال تنظيف المستشفيات وقيادة القطارات والباصات والحافلات، ونقل طرود البريد ومنتجات المزارع والعمل في المخازن لتوفير ونقل المواد الغذائية للمتاجر. الفقراء يصعب عليهم الحصول على الأدوات الطبية الوقائية مثل المعقمات والكمامات خلال الجائحة وبعضهم لايستطيع المطالبة بالرعاية الصحية والعلاج إذا أصيب بالفيروس. المطالبة بالحقوق قد تعرضهم للفصل من العمل، وعدم خروجهم للعمل يعني عدم القدرة على البقاء والنجاة في حياة وبيئة لا ترحم.

منظمة الصحة العالمية أشارت أن كبار السن ومن لديهم أمراض مزمنة هم الأكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا. حسب الإحصائيات الأميركية، 38٪ من ذوي البشرة السمراء يقعوا ضمن دائرة خطر السمنة مقابل 31٪ لذوي البشرة البيضاء. وهناك 32.2٪ من الأميركان السود مصابين بارتفاع ضغط الدم مقابل 23.9٪ من الأميركان البيض. وأخيرا 10٪ من الأميركان السود لديهم أمراض صدرية مثل الربو مقابل 7.5٪ من الأميركان ذوي البشرة البيضاء.

الفقر وعدم توفر المساواة في التعليم والرعاية الصحية والتأمين الطبي أدى إلى أن يكون معظم المصابين والوفيات في أميركا من ذوي البشرة السوداء، وحلت منطقة كولومبيا District of Columbia كأعلى نسبة بواقع 81٪ من المصابين فيها، تليها منطقة مسيسيبي Mississippi بنسبة 63.9٪ وجورجيا Georgia بنسبة 55.9٪، وليوزيانا Louisiana بنسبة 51.8٪ من المصابين والوفيات وبنسب متشابهة لباقي الولايات.

عنصرية دائمة يعود تاريخها إلى 400 سنة ومع أزمة كورونا التي أفرزت 40 مليون عاطل عن العمل في أميركا، وحوادث متكررة لقتل مواطنين من ذوي البشرة السوداء بدم بارد من قبل رجال الشرطة ومواطنين من ذوي البشرة البيضاء وثقتها صحافة المواطن ونقلتها الفيديوهات والصور في وسائل التواصل الاجتماعي لتهز الصورة الذهنية الأميركية والتميز العنصري في عدم احترام لحقوق الانسان المدنية. في شهور بسيطة، قتل حارس أمن منع سيدة من دخول مركز تسوق بدون كمامات حسب التعليمات، إلى الشاب أحمد الذي قتل وهو يمارس رياضة الجري. بعدها بأيام أسوأ فيديو انتشر حول العالم لقتل بطيء بلا رحمة لجورج فلويد على يد رجال الشرطة الأميركية بوضع ركبة الشرطي الأميركي الأبيض على رقبته وهو ملقي على الأرض لمدة تسع دقائق وهو ينادي بأنه لا يستطيع التنفس حتى مات.

جورج فلويد هو الشرارة التي فجرت المظاهرات في أميركا دولة الحرية والديموقراطية، وأحدثت الخراب والنهب والدمار وزيادة الفقر والمعاناة. اهتزت صورة أميركا الذهنية والعالم يتناقل صور الحرائق والفوضى، التي أدت إلى تعاطف مع منظمة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter بداية من عاصمة الضباب لندن في بريطانيا إلى إيرلندا وإيطاليا وكندا، لينتقل التعاطف إلى الأندية الرياضية وجماهيرها. طلبات المتظاهرين مؤلم أن تسمعها في القرن الواحد والعشرين، هي ببساطة “لون بشرتي السمراء ليس جريمة أعاقب عليها بالقتل والتميز”، وطلبهم المساواة مع ذوي البشرة البيضاء. معادلة سهلة معقدة لم تحل منذ 400 سنه مع غياب قائد سياسي أميركي يستطيع توحيد الصف بالأفعال ويترك أثر يصنع به التاريخ.

لكن ما هي قصة مدينة سياتل قبل  30 عام؟

وصلت أميركا قادما من مكة التي تشتهر بصفاء مجتمعها بعيد عن أي عنصرية فكان الأبيض والأسود عبر التاريخ هم نسيجها المجتمعي. عشنا براءة الطفولة ولعب الكورة في حواريها وشوارعها بعيد عن الأحقاد ضد أي لون أو دين أو طائفة. وخلال دراسة اللغة الإنجليزية داخل أحد معاهد اللغة في جامعة سياتل واشنطن الأميركية كانت مردسة اللغة تحرص على تمكين الطلاب بمهارات لعمل تقارير ومقابلات والحديث مع الناس في الأماكن العامة. موضوع بحثي لعمل تقرير مختصر عن لماذا المواطن الأمريكي من ذوي البشرة السوداء وعبر الأجيال بلا طموح أو قدوة يرغب الوصول إليها؟

إجابات من قابلتهم تشير بأن الدراسة بعد الثانوي أو الكلية ليست طموح الشباب ذوي البشرة السمراء. طموح الدراسة يعني تراكم ديون إضافية والأفضل إيجاد عمل يمكن الأبناء من مساعدة الوالدين الغارقين في دوامة الديون والفقر. أعلى طموح هو التوجه للمجال الرياضي ومحاولة أن يصير الشاب نجما في دوري المدارس والكليات في رياضة كرة سأة او كرة القدم الامريكية أو العدو الرياضي. لا يوجد قدوة في مجال المال والأعمال أو قدوة سياسية تشجعهم للوصول للمناصب العليا، يرون أن ذلك حلم صعب المنال.

بين سياتل والمأمول تغيرت أجيال وقناعات، لكن الواقع يشير إلى أن أجيال ذوي البشرة السمراء في أميركا توارثوا الإحساس بعدم المساواة في الحقوق المدنية. لغة الأرقام تقول أن ذوي البشرة السوداء يشكلوا 14٪ من سكان أميركا، ونسبة العاطلين عن العمل قبل وبعد أزمة كورونا من ذوي البشرة السوداء عالية. فقط 3.2٪ من السود من استطاع الوصول إلى منصب إداري قيادي، في حين استطاع أقل من 1% استطاع الوصول إلى الشركات الكبرى Fortune 500. ويجد 65٪ منهم صعوبة في إيجاد عمل ويعتقد أنه عليه بذل جهد واجتهاد مضاعف في العمل للحصول على الرضا مقابل 16٪ لذوي البشرة البيضاء، ويعتقد 20٪ من ذوي البشرة السوداء بأنه صعب جدا أن يتمكنوا م نالحصول على ترقيات داخل الاعمال والوصول لمناصب أعلى.

أميركا الدولة الأقوى اقتصاديا وطبيا وعلميا وبحثيا، تمارس الضغط المستمر على دول كثيرة من حول العالم من أجل التغيير وتحقيق المساواة للأقليات، لكنها لم تستطع تطوير أنظمتها لتغير الصورة النمطية السلبية نحو سكانها من ذوي البشرة السوداء. توارث الأجيال الشعور بالتهميش، والإحساس بالدونية وصعوبة الحصول على تعليم وعمل مناسب قتل لديهم الطموح.

تقول الحكمة الصينية “إذا أخبرتني سوف أنسى، أذا أريتني قد أتذكر، لكن إذا أشركتني سوف أفهم”. إشراك جميع أطياف المجتمع وسماع أصواتهم يساعد في تطوير الخدمات للجميع، واكتشاف طاقات المجتمع يزيد من نسبة رضا وولاء المواطنين، ويزيد الإنتاجية ويحقق نمو وسعادة المجتمع والمساواة. إطلاق مبادرات وبرامج تشرعها السلطات الرسمية تجعل ذوي البشرة السمراء في أميركا يروا الأفعال لا الأقوال من السياسيين لتعيد الثقة والأمل مع إبراز قصص نجاح في الوظائف القيادية وداخل الجامعات ليرتفع سقف الطموح ويقل الإحساس بالتجاهل المجتمعي والنظرة الدونية لقضاياهم وهو شعور المتظاهرين الشباب وأجيال المستقبل.

العالم أصبح قرية واحدة ووسائل التواصل الاجتماعي وحدت شباب المستقبل حول العالم لتكون همومهم مشتركة لا يفرقها “لون” في دعم وتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والتعاطف لتعزيز حقوق المساواة لذوي البشرة السوداء في المجتمع المدني الأميركي، وتخفيض نسبة الفقر ونشر التعليم وتوفير الرعاية الصحية والتغير المناخي وحماية البيئة ودعم البرامج التنموية والشراكات المجتمعية والابتكار لتحقيق المساواة وسد الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

في ضجيج عالم الأقوال، تقول الحكمة الصينية  للسادة الأميركان أشركني بالأفعال، فحياة السود مهمة تحقق الأحلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *