الرأي

الفردية.. مذهب يفشل في اختبار كورونا

حبيب عبدالله

صحفي، عمل سابقا في الوطن، الشرق الأوسط، وصحيفة الوفاق الإلكترونية، ومجلة المجلة، ومجلة الفيصل.

شاهدنا تسابق ملايين البشر إلى الأسواق في أوروبا وأميركا، فاجأتنا الطوابير والتدافع لشراء الطعام والشراب والمناديل والسلع الصحية ومنتجات أخرى كثيرة وحتى المسدسات والذخيرة الحية كما هو الحال في أميركا، وأصبحت الأرفف فارغة بعد أن كانت تغص بالمنتجات. فُرغت المحلات من محتوياتها بسبب أزمة تخزين الطعام وكأنها في سباق مع تفشي وباء كورونا، حتى صارت الضروريات نادرة ومكلفة. ولو سألت أي واحد منهم لقال: نفسي نفسي.

وأنا أرى وأسمع عن هذه المشاهد عبر نشرات الأخبار وتدوينات تويتر وفيسبوك، يتبادر إلى ذهني مباشرة سلوكيات ضبط النفس وعدم الشعور بالذعر وغياب الحرص على تخزين الطعام عند الغالبية العظمى من السعوديين (بالتأكيد هناك حالات ولكن لا تمثل وضع المجتمع الحقيقي وما يحدث من تزاحم ليس سببه الذعر بل هو مماثل للتسوق قبيل رمضان)، في حين انتابت المجتمعات الغربية حالات الفزع والهلع، وغياب اللامبالاة تجاه الآخرين. صار أفراد هذه المجتمعات يشعرون بالرعب من انتهاء الطعام حتى تدافعوا لشراء كل شيء يمكن شراؤه، حتى لو كان من الكماليات مثل الشوكلاته. وبحسب خبراء علم النفس فإن صور وحالات اشتداد الشراء والحرص على التخزين وإفراغ الأرفف إضافة إلى غياب التواصل العائلي والمجتمعي، سوف تتسبب في خلق تأثير نفسي خطير، يبدأ من الخوف من إنتهاء الطعام وصولًا إلى الخوف من فقدان الاهتمام والرعاية وفي نهاية المطاف العزلة والموت وحيدًا.

بسبب هذه الصور فكرت قليلًا بالنزعة “الفردية” عند الإنسان، ومدى تغلغلها في مجتمعات غرب أوروبا وأميركا الشمالية، حيث عايشتها وشاهدت صورها وتأثيرها قبيل سنوات قليلة. حيث تقوم هذه النزعة على ممارسة الفرد لرغباته وأهدافه بكل استقلالية وبالاعتماد على نفسه فقط، ليس دون تدخل ومساعدة المجتمع فحسب، بل حتى دون مساعدة والديه وعائلته وأصدقائه ومجتمعه الصغير، فحياته وسلوكه الفردي دين يعتنقه ويدافع عنه. طبعًا إضافة إلى ما تمثله الفردية من حرية مطلقة على مستوى التعبير عن الرأي أو بعض التصرفات والسلوكيات التي قد لا يتقبلها المجتمع.

حرية الفرد (المقدسة) ومنها على سبيل المثال حرية التنقل واتخاذ القرارات الشخصية، اصطدمت بالإجراءات الحكومية المتعلقة بالصحة العامة الجماعية، وأهمها حظر التجول أو السفر واستخدام المواصلات العامة. مالت كفة الميزان لمصلحة الجماعة على حساب مصلحة الفرد.

فمنذ نشوء هذه النزعة أو مذهب “الفردية”، لم تجد نفسها في مواجهة جادة مع أي تحديات تذكر، ولم تُختبر قوتها ضد أي أزمة، حتى ظهر فيروس كورونا، وتسبب بكل هذا الفزع وانعدام الأمان والخوف من المستقبل القريب قبل البعيد. شعر الإنسان بأنه وحيدًا في مواجهة الأزمة، وليس جزءا من مجتمع أو دولة يتشارك سكانها المصير ذاته. حتى نقلت لنا وسائل الإعلام أخبارا عن وفيات لكبار السن في منازلهم وشققهم، معزولين عن العالم، واجهوا نهايتهم غير المتوقعة أفرادًا وحيدين. شعر الإنسان بانعدام حريته الفردية عندما تتعرض الجماعة للخطر

ربما فكر الإنسان بمدى خطورة حياته بمفرده بعيدًا عن جماعة ومنعزلًا عن مجتمع، وذلك اضطر إلى العودة إلى بدائيته والتفكير بتخزين الطعام تحسبًا للانعزال عن العالم والعيش وحيدًا وربما الموت وحيدًا أيضًا. وهذا برأيي بسبب فرديته وعيشه وحيدا منقطعًا عن مجتمعه الصغير الذي تمثله الأسرة النووية أو الأسرة الممتدة، وحتى الجيران وعدد الأصدقاء، معتمدًا على مفاهيم ونظريات مثل السوق والمجتمع الحر التي تلبي رغباته وحاجاته وتحقق أهدافه بلا سلطة أبوية وعائلية مباشرة، أو سلطة جمعية غير مباشرة. أتواصل يوميًا مع عدد من الأصدقاء الأجانب في بريطانيا وهولندا وألمانيا وأميركا، يبدون خوفهم من وحدانيتهم ويشعرون بالعزلة المخيفة والحادة رغم وجود الملايين من حولهم، منهم من هرب إلى منزل عائلته التي لم يراها منذ سنوات، ومنهم من يشتكي من عدم توفر المواد التي يحتاجها ويشعر بالرعب أن يعيش وحده. لا أنقل مثل هذا الكلام شماتة بهم، إنما لنقل واقع حقيقي.

بينما في المقابل ومع فيروس كورونا، ارتفعت قيمة الجماعية التي تقف في وجه النزعة الفردية، على الأقل بالنسبة لي أن شخصيًا وكل من أعرفه، فمثلا، ومنذ بداية الأزمة لم نشعر بذلك الخوف من إنتهاء الطعام ولا انعدام الأمن بسبب كوننا جزءا من أسر نووية وممتدة مترابطة اجتماعيا بشكل وثيق، ونعيش في مجتمع متكاتف، ومن دين يمثل أفراده أسمى صور التضامن والتعاون، إضافة إلى كوننا جزءًا من دولة تمثل الأمن والحياة والخلاص بالنسبة لنا، وإيماننا الراسخ بأنها لن تتخلى عن أحد من رعاياها، نحن المواطنون السعوديون، وحتى المقيمين من الجنسيات الأخرى.

الأزمات والشدائد تجعلك تشعر بقيمة الجماعة بدءًا من الأسرة الصغيرة وصولا إلى المجتمع الكبير، بينما الفردية ممتعة بلا شك، وبلا التزامات ولا انتقادات، إلا أنها في نهاية المطاف تقود الإنسان إلى العزلة وحيدا، يتسرب إليه الشك في مجتمعه ومؤسساته، قد يتمنى لحظتها مجرد اتصال هاتف لا يأتي، يصبح الإنسان كائنًا افتراضيًا يتجول ويتحدث في عالم الإنترنت بدون أن يهتم به أحد، أو حتى يلاحظ وجوده..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *