الوطن!

د. سليمان الذييب

خلق الله عز وجل الإنسان –كما ورد في الكتب الدينية- في جنة الخلد من الطين، وأمر ملائكته السجود له احتفالاً بخلقه وتقديرًا له. فقد خلق الله له حياة ومنهجًا مختلفًا عن بقية مخلوقاته من أهمها -حسب علمي- الحساب والعقاب، إلا أن إبليس -عليه من الله ما يستحق- كان الوحيد الذي شذ عن أمر ربه فعصاه، ورفض السجود له، ليس فقط كبرًا منه لأنه خُلِقَ من نار والإنسان من طين، والفارق بينهما في تقدير إبليس العاصي كبير ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)). فماذا أراد الله -جل وعلا- من قوله سبحانه: “استكبر”؟

فالاستكبار في مفهومه العام هو: النظرة الدونية للاخر، المبنية على احتقاره لأي سبب كان: خًلقي أو عرقي أو غيرهما، فيتصور أنه الأفضل والأميز، لأنه “ذلك الشخص”، بمعنى آخر أن إبليس ظن أنه الأفضل والاميز بسبب طينته المختلفة عن الإنسان. ولعلي أضيف أيضًا -وقد أكون مخطئًا- أن الدافع وراء استكبار إبليس كان في رؤيته القاصرة، أن أبوينا آدم وحواء لا يستحقان المكانة التي وضعها الرب جل وعلا في مخلوقه “الإنسان”، بل وهو الأهم عند إبليس- بقاء هذا الإنسان واستيطانه (استقراره) الأبدي في الجنة، فقد عدها -بما فيها من نعم لا تخطر على بال بشر- حق له ولا يجب أن يحظى بها غيره.

وأوضح الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم- ان تصرفات والدينا “آدم وحواء” عليهما الصلاة والسلام، المتمثلة في عصيانهما وانقيادهما لإغراءات إبليس لهما بدخول “مغامرة” معرفة سبب تحذيره -جل وعلا- لهما من الاقتراب من الشجرة. وقد أدى عصيانهما –مع الأسف- في إنزالهما -عليهما السلام- إلى الأرض.

وكان الهبوط هو ما سعى إليه إبليس، فالتخلص منهما مناه ومبتغاه كي تبقى الجنة (الوطن) بنعيمها له هو (لوحده)؛ ومع أنهما سقطا في المصيدة التي وضعها إبليس لهما (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)، إلا أن العادل ولا سواه عادل رب العباد عاقب إبليس نتيجة لهذا الاستكبار المغلف بالنظرة الدونية الملازمة لحب الاستحواذ بطرده من الجنة، فلا مكان لإبليس فيها لحسده واستكباره بأحد مخلوقاته جل وعلا. وقصة طلب إبليس امهاله كي يتسنى له الانتقام من الإنسان سبب استكباره وطغيانه معروفة في القرآن الكريم.

وإن كان تفسيري لاستكبار إبليس هو رغبته في الاستحواذ الذي يعد نوع من أنواع الاستكبار- مرجحًا، فإني أرى أن إبليس نجح في غرس هذا الاستكبار في ذرية آدم، فجعل غالبيتهم يتبنون فكرته، في بلورة الوطن (أرض جغرافية محددة المساحة) وجعله فقط خالصًا وحقًا لمواطنيه نسبة إلى الوطن.

والمرجح أن هذه الفكرة الشيطانية تبناها الإنسان من إبليس مع الوقت، ففي البداية كانت الأرض بما فيها من خيرات (أنهار وغابات وحيوانات …إلخ) حق للبشر جميعًا يستمتعون بها ويحققون ذاتهم ورغباتهم من خلالها. ومع الوقت تشبع الإنسان بفكرة المليكة الاستكبارية التي اقترنت بطرد الاخر، والقصد أن امتلاك الأرض يقترن في طرد من عليها وحرمانه منها فيما عدا ذريتك أيها الإنسان.
ولم تظهر –في ظني- هذه الفكرة إلى حيز التطبيق الفعلي والقناعة الشخصية، إلا بين الألفين العشرين والخامس عشر قبل الميلاد. وتحديدًا بعد أن تبين للرجل خطأه الجسيم باعتباره المرأة “الإلهة الأم”؛ ففي فترة هيمنتها كان الناس يتنقلون دون خوف أو وجل، إلا أن الرجل بطبيعته الشرسة، بعد أن عَلِمَ استغفاله لنفسه هذه القرون الطويلة في فهمه الخاطئ للمرأة، فجاء انتقامه للإنسانية وللمرأة عنيفًا، فظهرت الطبقية والممالك وتغير مفهوم الحياة من المشاركة في الخيرات إلى الاستحواذ والتملك المقترن بطرد الاخر.
وهذا المفهوم الاستحواذي القائم على الاستكبار العرقي أو الجغرافي أو الديني، كان قاب قوسين أو أدنى أن يدمر البشرية والمفهوم الذي حدده جل وعلا للبشر، والمتمثل -بكل وضوح- أن خلقه لعبده الإنسان، هو: “لعبادته جل وعلا باستعمار (من الإعمار) الأرض”. لذلك بعث رسله بهدف إعادة الإنسان إلى الطريق الصحيح، وهو العبادة من خلال الإعمار في الأرض. فقد هدفت دعوة الأنبياء إلى التوحيد في عبادته جل وعلا، ومساواة البشر في الحقوق والوجبات العامة (مع الاقرار بالفوارق البينية).
وكان من الأهداف النبوية أن يعي هذا الإنسان الضعف حاجته إلى أخيه الاخر؛ ومع نجاح أغلب الأنبياء في توصيل الرسالة وتبلغها إلا أن الإنسان الذي غوى يعود إلى الاستحواذ والتملك وهدم فكرة الدين الجامعة إلى فكرة الدين المفتت بكثرة مذاهبه ومدارسه وتفاسيره التي أدت -مع الأسف- إلى خلق حواجز وعقبات بين معتنقي الدين ذاته، فيتحول الإيمان بالمذهب مساويًا إلى الإيمان بالوطن، فإن لم تكن من ديني أو متبعًا لمذهبي، فعلى الأرجح أنك عندي من المخالفين المطرودين من رحمة الله، وهو ذاته مفهوم الوطن الاستحواذي الاستكباري الذي يرى أن لا حق لك بالاستمتاع والاستفادة من خيراته لأنك لست من أبناءه، أو حاملا لجنسيته، وأن كان الأول مبررًا، فإن الثاني مرفوض؛ والملفت أن فكرة الاستحواذ الوطني تدفع البعض إلى الظن بأفضلية وجدارة تميز أبناء وطنه مقارنة بالاخرين.
ويراودني أحيانًا تساؤل حول معنى الوطن والوطنية؛ فهل الوطن هو ذلك المكان الذي ولدت وترعرعت فيه أم هو المكان الذي يوفر لك الحياة الكريمة؟
والإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق غير متوفرة الآن، لكن عندي أمثلة ثلاثة يمكن أن تدلنا على الاجابة المرجحة، هي:
1- رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام “محمد بن عبدالله” ولد وترعرع في أطهر بقاع الأرض “مكة المكرمة”، لكن مجابهة كفار قريش العنيفة له –بأبي هو وأمي- مع أنهم يقرون بأمانته دفعته إلى الهجرة وترك موطنه. وبطبيعة الحال الدافع وراء رفض غالبية كفار قريش هو نفس السبب الذي دفع إبليس إلى عصيانه ربه، وهو حب الاستحواذ، فقد خاف هؤلاء أن دعوته عليه أفضل الصلاة والسلام ستسمح لاخرين مشاركتهم ما هم فيه من جاه ومكانة. وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة التي فتحت له ذريعيها واحتك بمجتمعها الذي فتح له قلبه وعقله تمكن عليه السلام من نشر أخر الأديان الإسلامي.
2- نبي الله “عيسى” عليه أفضل السلام، ولد في مدينة الناصرة في فلسطين –فك الله اسرها- واجه بعد بعثه، حملة عنيفة من اليهود والرومان الذين أيضًا رفضوها لأنها تنتزع منها الاستكبار الاستحواذي، فلم يتمكن عليه السلام من نشرها بالشكل الذي عمل من أجله، فرُفع إلى السماء؛ لكن دعوته انتشرت لاحقًأ انتشار الهشيم في النار من مكان يبعد عن موطنها الأصلي بآلاف الأكيال “روما” عندما تبنها دعاتها.
3- النجاحات التي رأينها ولمسناها من أولئك الذين استوطنوا البلدان الإسلامية، أو الغربية في يومنا الحاضر، فعندما وجدوا الحياة الكريمة كانت مشاركتهم في الإعمار بينة وواضحة.
ولعلي أعود إلى السؤال أعلاه: هل يلام الشباب في عصرنا الحالي لأن الوطن من خلال قادته لم يوفروا لهم الحياة الكريمة؟ خصوصًا وأن سبب البطالة (لا تعلن الحكومات العربية الأرقام الحقيقية)، يعود إلى سوء إدارة وفساد مالي واضح. وفي ظل هذا الصراع بين الحكومات وأسلحتها الإعلامية وغير الإعلامية، التي تجعجع بالوطنية وترسخ مفاهيمها المغلوطة في معنى الوطنية (وطني وأن جار علي….)، وآمال هؤلاء الشباب المستحقة في حقهم بالحياة.
المؤلم أن نسبة كبيرة من شباب الأمة العربية بسبب تخلف الساسة والمفكرين الذي غسلوا أدمغتنا خلال عقود بالاختلاف بيننا من أبناء الوطن الكبير، فنحن عندهم أخطر على أنفسنا من غيرنا فدخولهم مجتمعنا خطر على ثقافتنا وعاداتنا ومفاهيمنا الاجتماعة، والمضحك المبكي أننا فقط قبل قرن نتنقل بين أرجاء الوطن من خليجه إلى محيطه ونختار المكان الذي يمنحنا الحياة الكريمة، فكيف اصبحنا بتقسيمات جغرافية مختلفين بل أعداء.
ولعلي أشير هنا إلى أن حب الوطن والذود عنه ليس أمرًا مطلوبًا فقط، بل واجبًا يفرضه العرف، وأن خيانته عن طريق القلاقل الإرهابية وغيرها تعد جريمة لا تغتفر، لكني أتكلم عن الوطن الكبير.
ولعلي في الأيام القادمة-إذا كان في العمر بقية- نتبادل الأفكار سويًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *