الرأي

“كأن مكتبة احترقت”

أسماء العبداللطيف

كاتبة سعودية،مدربة معتمدة في القراءة

عندما تلقت ‏الفنانة السويدية “سوزانا هيسلبرغ” خبر وفاة والدها الذي كان معلمها الأول ومرجعها في الحياة .. سألها أحد أصدقائها : “ما الذي تشعرين به سوزانا؟…قالت :  ” كأن مكتبة احترقت”.

انخرطت بعدها “سوزانا” برسم هاويات من الكتب بشكل بديع و محزن ، ولا غرابه فالحزن شيء صادق.

يبقى الموت الحتمية التي لن نعتادها ؛ لذا نشعر مع كل فقيد بنفس مشاعر الهلع والحزن ، ولا ينقص من مقدار الدمع والذكرى أنملة .

والموت عندما يأخذ كاتباً أو مترجماً أو عالماً أو مفكراً لا يكون الأخذ عادياً بل ألماً موزع بالتساوي علينا جميعاً .. ما أكرم الوجع .

لكنه الموت الحتمي في وقوعه الحاتمي في ألمه.. وما كان رحيل الأستاذ صالح علماني يوم الثلاثاء 3 ديسمبر 2019 إلا وجعاً فضفاضاً فاض من المكتبات حتى القلوب العربية التي قرأت له قبل العيون ، رحل رجل الظل الذي خلّف نوره الممتد . صالح علماني الإسم الذي يبعث لنفسك يقيناً ما ، يختار ويترجم لتشتري كل ما يترجمه وقلبك مطمئن بالإبداع ، رجل النص الحقيقي نص لا تمسه خيانه.

هرع القراء جميعاً لمكتباتهم يجمعون كل الكتب المترجمة له ، يحدقون بها ، ويبعثون بصورها عبر “تويتر” ، وكأنهم يتقاسمون تكذيب الخبر … هنا صالح ..صالح لا يرحل …وأغلق الجسر .

هذا الجسر الذي عبرت منه إيزابيل الليندي حاملة “باولا” وحصيلة أيامها وصورها العتيقة وحبيبة روحها “أنيس”، الجسر الذي أقام به “ماريو بارغاس يوسا” حفلة التيس ، وكتب رسائله إلى الشاب الروائي ، وأخفى دفاتر “دون ريغوبرتو”، الجسر الذي أقام به ماركيز “مائة عام من العزلة” ، منتظراً “زمن الكوليرا” ليكتب حبه ، لكنها ساعة الشؤم التي رمته في “متاهة الجنرال”.

الجسر الذي كتب به “جوزيه ساراماغو” كل الأسماء ، الجسر الذي أقام به “أنطونيو” عرس الشاعر لتهب رياح “ميغل انخيل” القوية …

كيف نترجم مترجماً ، جاء لنا بقصص من أطراف الأرض وعندما جاء دور قصته قال (أعيش لأترجم ) ثم عاد لظله .. إلى أن مات .

أنطق “ماركيز” لغة قيس ، وجعل “إيزابيل الليندي” تتراقص بين ضادها ومضادها وكأنها الجليلة ..

وفي المقابل نحن لا نستطيع أن نجمع لشخص واحد مشاعر واحدة ، كما لصالح أصدقاء وقراء ممتنون ، لابد وأن يكون له أعداء أو قراء رافضون… يسعون لتقزيم الأعمال… أو إدخال السياسة…..أو البحث عن الحياة الخاصة ……وكلها سطور مائلة غير واضحة وسياط أخيرة ليسقط خلفه تاريخه..

لسنا “سوزانا” لنرسم هاويات من الكتب يا صديقنا الراحل ، أنت تعرف كيف يعيش المبدع العربي ، وتعرف كيف يموت والظل خير .

(نقطة قبل السطر)
(الكتابة هي تفحص طويل لأعماق النفس، ورحلة إلى أشد كهوف الوعي عتمة ، وتأمل بطئ.

إنني أكتب متلمسةً الصمت ، واكتشف في أثناء الطريق أجزاء من الحقيقة ، ونتفاً صغيرة من الزجاج تتسع لها راحة اليد ، وتبرر مروري في هذه الدنيا)

إيزابيل الليندي / رواية باولا
ترجمة صالح علماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *