الرأي

القطبة!

البارحة جاءتني طيوف الماضي، القطاء والغدير وفيضة العشب وجامعات الحطب، والبرق بشير المطر ومفرح العسس، رائحة الخبز والصاج والرمث والنيتول والرمث والحناء وحفرة النار، وبيوت الشعر، والسحابة الهاطلة، والرحيل المر، والخلوج التي فقدت وليدها، لها حنين مر، وحزن كثيف، والرعاة المتعبون، وصوت الحداة في الليالي المعتمة، على مطاياهم الراكضة نحو الغيوم البعيدة، والعابرون نحو الغياب الطويل، يقطعون مشياَ، أو ظاعنين فوق ظهور الأبل يبحثون عن مكسب، أو شيىء يسد الرمق، والسنين الممحلة، وذاك الشريد الطريد صعلوك جاء من فج بعيد، متعب وراحلته مثله متعبة، يسال الآتيات من الغدير شربة ماء، تسد العطش، هي القطبة تراءى لي لها عمود وحيد، وبها شقوق، وحيدة منصوبة في مضارب نائية، ليس فيها سوى ريح جافة، ونعيق غراب بغيض، وعواء ذئب، وفحيح حية، وصوت كلب يعوي، على الغادين يعوي، وناقة عجفاء بالكاد تمشي، وجدب وقحط، وشجيرات يابسة أنهكها الظمأ، لا نعرف من العطور سوى رائحة الشيح والقيصوم والنفل والزعتر، ولا من الورود سوى الديدحان والصفار والشقار، ولا من الكماليات سوى الزوادة وثفال الخبز والسمن والخاثر، وبريق شاي عتيق صار من أثر النار أسود، وأقصى أمنياتنا مزنة واعدة في قيظ شديد الحرارة، ونطرب لثغاء الشياة حين يعود الرعاة في وقت الغروب، كأن ثغائها سمفونية راقية آخذة، وكذا الربابة يشدوها من صوته عذب رقيق، تهيض المواجع مع لحنها، وتنزع من النفس آهات موجعة، ولا من تعاليل سوى في أول الليل قصير، لأن الناس من أثر التعب ناعسة، لذا تنام باكراَ، لتصحو قبيل الشمس عاملة، وعندما يسفح النور، يطوون الأرض طياَ، وعند الظهيرة يفرشون عباءاتهم تحت ظل شجرة، ويحكون لبعض عن الماء والرمل وبلاد العيون التي يبتغون، تسهدني تلك الطيوف التليدة، كلما مر بي طيف جاءني طيف جديد، هي أشياء تسري في دمي وتسكن في الذاكرة كأنها طيلة الوقت معي، تشعل في روحي سنين الخوالي، لتصبح عندي قوافي، أو كماء بلا لون، لكنه صافياَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *