مررت بالمسجد المحزون أسأله..

في مجلس بيتي تحتل صورة متميزة مكاناً متميزاً، الصورة بعدسة المصور السعودي الفنان مفرح السويلمي الذي صوبها لبقعة ماء من مطر السماء على الأرض المرصوفة بالحجارة انعكست عليها مآذن وقباب جامع خالد بن الوليد في حمص السورية التي بدت شامخة مهيبة حتى وهي تعكس صورتها على الأرض قبل أن تطالها مدافع وطائرات نظام الأسد وميليشيات «حزب الله» العميلة بالقصف الذي حول التحفة المعمارية الأثرية إلى ركام، من دون أي مراعاة لحرمة بيت من بيوت الله ولا حرمة قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه صاحب رسول الله وسيف الله المسلول كما لقبه الرسول الكريم.

الصورة احتلت هذه المكانة عندي لأني بشكل ما اعتبرتها نبوءة من الفنان لما سيحل بالجامع التاريخي، كما حل ببقية التراث الحضاري والإنساني في سورية من تدمير ممنهج في الحرب العبثية التي يشنها النظام الطائفي ضد شعب سورية تمسكاً بالسلطة وخدمة لأهداف المشروع الإيراني في المنطقة.

لكني عدت إلى الصورة مرات كثيرة حين تواترت الأنباء عن الحملة العالمية لإعادة ترميم كاتدرائية نوتردام دو باريس (والاسم يعني كاتدرائية سيدة باريس العذراء) والتي وصلت حصيلة تبرعاتها إلى ما يقارب البليون دولار، من فعاليات اقتصادية وشركات من حول العالم، والحكومة الفرنسية اهتزت، والرئيس تعهد بإعادة بناء الكاتدرائية، وأقيمت حفلات في العاصمة باريس لصالح مشروع الترميم. والمقارنة هنا ساخرة لحد الألم، وتبين حجم الانتقائية في النظر للتراث الإنساني وأهمية الحفاظ عليه من التدمير.

الحريق الذي تسبب في انهيار الكاتدرائية نشب أثناء إجراء عمليات صيانة وترميم دورية، فأحرق الأعمدة الخشبية الأصلية التي تحمل البناء، وعلى رغم القيمة الدينية الكبيرة التي تمثلها هذه الكاتدرائية لدى الكاثوليك، فهي بنيت على الموقع نفسه الذي قامت فيه أول كنيسة مسيحية في باريس على أنقاض معبد روماني عام 528م، وتحولت إلى كاتدرائية عام 1160 (الكاتدرائية هي مقر أسقف المدينة والذي يشرف على بقية الكنائس التابعة له) وشهدت أحداثا تاريخية هامة، إذ توج فيها عدد من ملوك فرنسا، ومنها انطلقت الدعوة لقيام الحملة الصليبية الثالثة، إلا أن التبرعات جاءت في معظمها ليس انطلاقاً من عاطفة دينية، بل وعي بقيمة الأثر التاريخي والرمز الثقافي.

بينما أن جامع خالد بن الوليد تم تدميره جراء قصف إجرامي متعمد في شهر تموز (يوليو) 2013، شارك فيه طيران النظام وميليشيات «حزب الله»، ولم نسمع إلا نداءات ضعيفة صدرت من اليونسكو وبعض الهيئات والشخصيات المعنية بالتاريخ، بل إن ترميمه الذي بدأت به السلطات السورية توقف بعد تظاهرات مدبرة من عملاء للنظام احتجاجاً على ارتفاع التكاليف بحسب زعمهم، وانتظر الأمر حتى عام 2018 حينما تكفلت جمهورية الشيشان بترميم الجامع، وهو ترميم قال خبراء آثار سوريون أنه أفقد الجامع رونقه الأصلي وروعة عمارته. والجامع بناه السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في القرن السابع الهجري (الـ13 الميلادي) وأعاد بناءه السلطان العثماني عبدالحميد الثاني في القرن الـ19 الميلادي، بحيث بناه على الطراز العثماني مع لمسات معمارية سورية خاصة.

حمص التي دمرها نظام الأسد وحربه العبثية، احترمها القائد المغولي تيمور لنك ولم يدمرها كما دمر غيرها احتراماً لقبر خالد بن الوليد، حين وقف عليه وقال: «يا خالد، إن حمص هديتي إليك أقدِّمها من بطلٍ إلى بطلٍ»، والمفارقة أن تيمور لنك لم يعرف أنه سيعقبه على المدينة من هو أكثر وحشية وحقداً منه.

وخالد بن الوليد يطل من قبره ويصرخ في وجوه وحوش العصر: «لا نامت أعين الجبناء».

والمفارقة الأخرى أن حمص ودمشق وحلب وكل مدن سورية تستعيد الآن أبيات أحمد شوقي:

مرَرتُ بالمسجدِ المَحْزونِ أَسأَله

هل في المُصَلَّى أو المِحْرابِ مَرْوان؟

تَغَيَّرَ المسجدُ الْمحزون، واختلفَت

على المَنابرِ أَحرارٌ وعِبدان

فلا الأَذانُ أَذانٌ في منارته

إذا تعالى، ولا الآذانُ آذان

سلطان البازعي

نقلاً عن (الحياة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *