الموسيقا أرقى الفنون السمعية، والرقص من الفنون البصرية. فإذا تحولت الموسيقا إلى فن مرئيّ ضاعت قيمتها. ولا يستطيع الرقص أن يتحول إلى فن سمعيّ؛ لأنه يقوم على الإبهار البصري.

وهذه تجربة عاشها فيلسوف موسيقيّ حاول الجمع بينهما كما فعل الفارابي في تراثنا القديم، وكما يظهر في كتاب «الموسيقا الكبير». الفكرة تشع على العقل. واللحن يرن في القلب. وكلاهما صدق مع النفس في التعبير، في الاستقبال والإيصال، في الأخذ والعطاء. كلاهما يستبعد النفاق والخوف والعجز والإحباط عندما يعبِّر العقل بالفكر، والقلب باللحن عما بهما من أفكار ومشاعر. وفي باريس التي قضيت فيها عشر سنوات حاولت الجمع فيها بين الفلسفة والموسيقا؛ الفلسفة في السوربون في الصباح، والموسيقا بعد الظهر في الكونسرفتوار. وفي المساء؛ نصف الليل الأول لقراءة الكُتب، ونصف الليل الثاني لعزف الكمان بكاتم الصوت. وبعد سنتين وقعت صريعًا للمرض؛ التهاب في الرئتين، أولى مراحل السُّلِّ. ولما عرف الأطباء كيف أعيش طلبوا مني التفرغ إلى مهنة واحدة: الفلسفة أو الموسيقا. وإن لم أفعل فسيرسلونني إلى أعلى جبال الألب حيث كان يعالج مرضى السُّلِّ باستنشاق الهواء النقي. وكيف لي أن أتخلى عن أحد ولديَّ أو إحدى بنتيَّ؟ وتخليت عن الموسيقا مرغمًا. وبقيت الفلسفة. أُلحِّنُ الفلسفة. وأُحوِّل الألحان إلى أفكار. فلا فرق بين الفلسفة والموسيقا. فكلاهما وجهان للتعبير.

والموسيقا هي روح الشعب. فهناك الموسيقا الشرقية؛ العربية أو التركية اللتان ما زلنا نطرب لهما. وهناك الموسيقا اليابانية والصينية اللتان يُمَلُّ من سماعهما. وهناك الموسيقا الماليزية الإندونيسية التي تقع بين الاثنين. وهناك الموسيقا الإفريقية التي انتقلت إلى موسيقا الجاز الغربية. وقد تطورت الموسيقا الشرقية إلى الموسيقا التركية المملوكية إلى الموسيقا العربية التقليدية أو التي بدأت تتحدث بالموسيقا الغربية كما فعل عبدالوهاب. وهي ما زالت موسيقا السماع أو الرقص الجماعي كما هو الحال عند سيد درويش. ثم انتقلت الموسيقا الشرقية من موسيقا الطرب ووضع اليد على الخد وهزِّ زِرِّ الطربوش إلى موسيقا هزِّ البطون مع الرقص الفردي للجسد العاري، وعالَم «العوالِم» الذي اشتهر به شارع محمد علي بالقاهرة، وأفلام حسن الإمام، والرقص الشعبي، إضافة إلى تصفيق الجمهور. وتحول الفن السمعي إلى فن بصري. وفقدت الموسيقا خاصية الطرب ولذة التذوق.

الفلسفة الرومانسية وبيتهوفن

أما الموسيقا الغربية فقد انتقلت من الموسيقا الكنسية والترانيم الدينية إلى الموسيقا الكلاسيكية عند باخ وهاندل إلى الموسيقا الرومانسية ابتداءً من موزار إلى بيتهوفن. ولا فرق بين الفلسفة الرومانسية وموسيقا بيتهوفن أو بين موسيقا بيتهوفن والفلسفة. فالسيمفونية الثالثة لبيتهوفن تُحدِّد دور البطولة مثل «نابليون» ومارش البطولة في الحركة الثانية. والسيمفونية السابعة لبيتهوفن هي السيمفونية الرعوية التي حاولتْ أن تعبر عن خضرة الربيع وزهره. والسيمفونية التاسعة تعبر عن الفرح وتنتهي بنشيد الفرح للشاعر شيللر، والنداء إلى الخلان. ثم انحدرت الموسيقا الرومانسية تدريجيًّا حتى وصلت إلى موسيقا متقطعة. ولعبت الآلات الوترية دور آلات الإيقاع مثل موسيقا سترافينسكي. واختفت الموسيقا السيمفونية تقريبًا عندما تدخلت فيها موسيقا الرقص مثل «بوليرو» لرافيل. ثم انتشرت موسيقا الرقص الإيقاعية لهزِّ الأجساد مثلها مثل السامبا والرومبا أو لزق الأجساد للرجل والمرأة في التانغو دون وقوعها في العري.

واجتمع الصوت والصورة في الباليه، الرقص الموسيقيّ، والموسيقا الراقصة. وبدلًا من ارتداء اللباس الأبيض الشفاف، وبدلًا من العناق الراقص يصبح الباليه أشكالًا رياضية لجسدين أو أكثر للتعبير عن معاني الفرح أو الحزن، الشجاعة أو الخوف. وكما انتهت الفلسفة المثالية الرومانسية عند فيشته وهيغل وشيلنغ كذلك انتهت الموسيقا الرومانسية عند بيتهوفن وشتراوس. انتهت الأولى بالتفكيك ونقد العقل ورفض المنهج واستبعاد الحداثة. وانتهت الثانية بالموسيقا الراقصة في البارات والقاعات. ومن مظاهر انحدار الموسيقا الرومانسية الروح المتقطعة والنفَس القصير وتحويل آلات النفخ المتقطعة إلى الآلات الوترية. فلم يستطع النفَس القصير أن يتحول إلى نفَس طويل. ويتخذ بعض الفنانين والفلاسفة هذا التحول كدليل على نهاية الحضارة الغربية نفْسها كما قال شبينغلر «انهيار الغرب». فقد ظهرت مفاهيم العدم والموت والقلق. وفي الموسيقا والغناء العربي تظهر أغانٍ مثل «حبة فوق وحبة تحت»، و«سلامتها أُم حسن» وغيرهما من الأغاني التي تعبر عن الطبقة العمالية بعد رجوعها من الخليج.

هز البطن وسيلة للإثارة

أصبح هزُّ البطون وسيلةً إلى الإثارة الجنسية، واشتهرت الراقصات اللائي يمثلن الرقص الشعبي نجومًا في السينما، ومدارس فنية مثل تحية كاريوكا وسامية جمال. ولا يُصَوَّر فِلم جادّ إلا وفيه فاصل من الرقص الشرقي، هزّ البطون والأرداف والصدر. ولم يعد أحد يسمع حتى الموسيقا العربية الحديثة مثل سلامة حجازي وعبده الحامولي وسيد درويش. وتحول معظمهم إلى مغنين أو ملحنين مثل سيد مكاوي، والشيخ إمام الذي عاد بقوة في الستينيات لربط التلحين والغناء بالأوضاع الاجتماعية والسياسية لكبار الشعراء الشعبيين مثل أحمد فؤاد نجم، وزين العابدين فؤاد، وفؤاد حداد، عودًا إلى عصر سيد درويش الذي جمع بين الغناء الشرقي القديم والروح المصرية والعصر الذي عاش فيه سعد زغلول وثورة 1919م.

والآن، وفي نهاية العمر وقد قاربتُ الخامسةَ والثمانين تعود الذكريات إلى لحظة الاختيار الأولى وأنا في الثالثة والعشرين، هل كانت موفقة؟ هل أحسنت الاختيار؟ فكلما سمعت الموسيقا السيمفونية حَنَوتُ إليها. وتعود الحيرة من جديد إذا ما كنت قد اخترت الموسيقا. أيها؟ العازف أم قائد الأوركسترا أم المؤلف؟ وعندما أرى اكتمال مشروع «التراث والتجديد» بجبهاته الثلاث: الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع أو نظرية التفسير بمجلدات تفوق الأربعين؛ أقول: إنني أحسنت الاختيار. وعندما أرى أثره في الوطن العربي والعالم الإسلامي يزداد تأكدي أنني أحسنت الاختيار. وعندما أرى أن المشروع قد تحقق أيضًا على مستوياته الثلاثة: المستوى العلمي الخالص للمتخصصين، والمستوى الثقافي على مستوى الثقافة العامة لتحريك النخبة المثقفة بنحو عشرة مجلدات، وعلى المستوى الشعبي السياسي لتحريك الجماهير في اثني عشر مجلدًا أكون أسعد في الاختيار. والآن يعود الحنين إلى الموسيقا، وبخاصة سيد درويش ومحمد عبدالوهاب القديم. فيبدو أن هذه الترنُّح بين الفلسفة والموسيقا سيظل دائمًا حتى أغادر هذا العالم. أما الشيء القطعي الذي لا شك فيه فهو إهمالي البدن حتى تراكمت الأمراض، وعجزت عن الحركة إلا على كرسي متحرك. وضعف البصر للقراءة والكتابة. وضعف السمع للأحاديث اليومية. ولا عزاء فقدْ فَقَدَ طه حسين بصره وهو صغير. وفقدَ بيتهوفن سمعه في آخر عمره وهو يؤلف السيمفونية التاسعة. وفقدَ سيد درويش حياته في خضمّ الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919م بأربع سنوات.

حسن حنفى – مفكر مصري (نقلا عن مجلة الفيصل)
www.alfaisalmag.com