خلني أقول لك , ما فاتك شيء

“سنوات الجوف”.. كتابٌ يضعك في الأسْر

طارق إبراهيم

رئيس التحرير ، ومالك شركة (الطارق للإعلام) وسابقا: رئيس تحرير صحيفة (الوطن) السعودية، و رئيس تحرير مجلة (الأسرة) .

أسعدني صديقي الدكتور عبدالواحد الحميد مرتين في بحر ساعات: الأولى ؛ حين أهداني كتابه  “سنوات الجوف.. ذكريات جيل”، والثانية ؛ عندما أعادني بأسلوبه الراقي في الكتابة ، وسرده التفصيلي المفعم بروح المكان وعطره، إلى ذكريات  الطفولة والصبا، بكل ما فيها من براءة ودفء.

كانت سمعة الكتاب قد وصلت مسامعي بمجرد صدوره، خاصة وأن كثيرين من الكُتاب المرموقين قد أشادوا به  في كثير من المحافل ومنصات التواصل والنشر، ما دعاني لمطالبة صديقي العزيز بنسخة أُشبِع بها نهمي لمعرفة الأسباب.

والحق أنه كان – كعادته – كريمًا ودودًا، فسارع بإرسالها لي، لأُبْحِر – فور ذلك – بين الكلمات والجمل، القصص والحكايات، الملامح والتفاصيل…صِرتُ شغوفًا بأن أَصل للنهاية، على الرغم من ضخامة الكتاب النسبية.

أكثر من 300 صفحة من الحجم الكبير،  تتزاحم فيها الذكريات والوجوه والمعاني، لتأخذك إلى عالمٍ بعيدٍ زمنيًا، لكنه قريب بدفئه وصدقه إلى الوجدان، حتى أنك لا تجد مفرًا من إتمام قراءته، مهما كانت شواغلك.. شخصيًا؛ فرَّغت نفسي يومين كاملين لهذا العمل القَيم، حتى انتهيت منه ، لكنني قررت التريث 3 أشهر قبل الكتابة عنه…وها أنا أفعل.

لقد شدني الكتاب في كل تفاصيله : العنوان،  صورة الغلاف، الصور الداخلية، الحبكة ، طريقة السرد، الجمل ، ومسميات الأشياء ، وجدت نفسي جزءا من الكتاب على الرغم من أنني ولدت وعشت بعيداً عن منطقة الجوف ، فأنا من سكان الشرقية ، لكن كثيراً من العادات والطبائع هناك، تتقاطع تقريبا مع ما يسود  جل المناطق  السعودية وربما في دول الخليج عامة .

شخصيًا ؛ عايشت كثيراً مما تحدث عنه الدكتور الحميد في فترات من عمري ، وهناك أشياءٌ كثيرةٌ لم أعايشها بحكم أن الدكتور يكبرني بخمسة عشر عاماً تقريباً. ولعل من الأشياء الرئيسية التي لفتت نظري في كتاب  “سنوات الجوف.. ذكريات جيل”، وفسرت لي حب الدكتور وتمسكه بالكتابة والصحافة أنه كان مراسلاً نشطاً للصحف منذ صغره ، كما أنه كان قارئًا غير تقليدي للصحف والكتب ، ومستمعاً جيداً للإذاعات وما تبثه من خطابات وتحليلات سياسية حول قضايا الأمة في تلك الفترة .

لقد أجاب الكتاب على سؤالٍ  شغلني طويلًا وهو :” كيف لأستاذ جامعي متخصص في الاقتصاد ويدرس في جامعة متخصصة جداً ، هي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ، أن يُغرَم بالصحافة والإعلام إلى هذه الدرجة النادرة؟. وفي ذلك أتذكر الدكتور عبدالواحد، عندما كان يتصل بي إبان رئاستي لتحرير صحيفة “الوطن” السعودية، غاضباً قائلاً : إنه يقرأ كل الصحف السعودية باستثناء “الوطن” ، ثم يسترسل قائلاً:” موادها كأنها مجلة لا تصلح للقراءة السريعة ، فاضطر لحفظ كل أعداد الأسبوع لقراءتها مرة ثانية في نهاية الأسبوع”.

لفت نظري في الكتاب أيضًا التفاصيل الكثيرة للحياة اليومية في الجوف . والحق أنني دُهشت من أسلوب العرض الشيق الذي نجح من خلاله المؤلف في تقديم سردٍ جذابٍ جمع من خلاله كل ما في المنطقة من أجواءٍ وعاداتٍ وسلوكياتٍ، بل إنه لم يترك تقريبًا بيتاً أو دكاناً أو زاويةً في الجوف إلا وجاء على ذكرها ، بطريقة تجعل القارئ يبدو كزائرٍ محبٍ لكل هذه الأماكن.

أما تناول الدكتور الحميد لأهل الجوف، ولاسيما الأشخاص الذين اقترب منهم ، فحمل  الكثير من القيم والمعاني التي تعبر عن شخصيته هو نفسه، وفي مقدمة ذلك الوفاء للذكرى والأثر . تحدث الدكتور الحميد عن عددٍ كبيرٍ من السكان مع شيءٍ مما يعنيهم . حتى الذين أزعجوه مثل من طلب منه أن يردفه في الدباب كتب عنه ولو بأسلوب فيه مداعبة!.

والحق أقول: إنني غبطت الدكتور عبدالواحد على  عدة أمور منها ؛ ذاكرته الثرية ، نفسه الطويل في ذكر التفاصيل لذكريات مرت عليها عقود، احتفاظه بكم كبير من الصور والمجلات والصحف والقصاصات ، فضلاً عن حسه العالي في فترة طفولته وشبابه عندما كان يسجل ذكرياته أولاً بأول ليأتي هذا اليوم مستفيداً منها بقوة في هذا الكتاب.

أغبط الدكتور الحميد أيضًا لقدرته على البحث في أرشيفه الكبير والمنّوع ليخرج لنا بهذه المعلومات والصور ، وأزيد على ذلك فأقول: إن الرجل أعجبني كثيراً بعدة مواقف أظهرها بامتداد كتابه الشيق، ومن ذلك: إهداء الكتاب لوالديه خالد الحميد ومطيعة الرشيد وإلى عمه الذي كانت له مكانة خاصة عنده “ثاني الحميد” مثلما كانت لشقيقه فوزي (الأول) مكانة خاصة أيضا وإلى إخوانه وأخواته وزوجته وبناته . ومن ذلك أيضًا  ذكره أسماء السيدات في حياته مثل والدته وزوجته وبناته وأخواته كأنه يريد إيصال رسالة لمجتمع غالٍ عليه ، لكنه ربما لا يزال بحكم العادات يتحفظ على ذكر اسم الأنثى علنا.

بنفس الدرجة، أعجبني  شكر الدكتور الحميد  لكل من شجعوه ودعموه وقدموا له الملاحظات ، ولم يجد حرجا في ذكر أسمائهم واحدا واحدا على صفحة ونصف تقريبا من هذا الكتاب المهم، ثم أعجبني بدرجة أكبر وفاءه لصديقه الدكتورغازي القصيبي (رحمه الله) حينما خصه بصفحة كاملة بدأها  بنقل نص عنه  يتناسب مع مضمون رائعته المدهشة  “سنوات الجوف.. ذكريات جيل”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *