عندما عزلهم نجم قمة الـ20

كنت أتمنى أن أصل إلى باريس أميركا اللاتينية، بوينس آيرس، وحيداً خالياً من الهموم كي أكتب إليك عزيزي القارئ مقالاً نتبادل فيه تأثير الجو المعتدل على قلم الكاتب ومزاج القارئ، بخاصة واسم العاصمة الأرجنتينية يعني مدينة الهواء العليل، أو سيدة الرياح الطيبة. أو أن أجلس وحيداً على الشاطئ الجنوب شرقي للقارة البعيدة التي نسمع عنها كثيراً، ولا تسعفنا المسافة لزيارتها في إجازاتنا القصيرة، لكن ما الذي يمكن قوله عن رحلة كهذه، قصيرة كثيفة الفعاليات، كثيرة اللقاءات الجانبية، وصورة بعدسة صحافي، لا تعرف حتى اسمه، قادرة على سرقة ساعات قد يقضيها كاتب في توصيف التفاصيل الدقيقة للقاءات لا ينتهي أحدها إلا وتقرع الأجراس للانتقال إلى أخيه.

يوقفني زملاء «مهنة المتاعب» لسؤالي عن مصافحة نجم قمة العشرين الأمير محمد بن سلمان للرئيس بوتين! تدهشني قدرة الإعلاميين على قراءة لغة الجسد كما يحبون، وبضغط من القارئ أو المتلقي – صاحب الحضور الأكبر حتى في غيابه – يحاول كل مراسل قراءة المشهد أو الصورة كما يظن أنها ستعجب انتظار السيد البعيد والقريب جداً.

في مثل هذه القمم التي يتم الاستعداد لحضورها وقتاً طويلاً، وقتاً لحفظ الأسماء، وآخر لمراجعة الأرقام وتحديث قديم معلوماتك عن كل حاضر وممثل لدولته، أقول، في مثل هذه القمم تستعيد مشهد موازين القوى وتغير شكل طاولة الاقتصاد كي تصبح الطاولة – المحرك الأهم لعالم ما بعد القطبين، وبعد العالم الذي تعددت أقطابه وتغيرت فيه موازين القوى لتجد لاعبين جدداً في كل عقد جديد.

قبل «سيدة الرياح الطيبة» – بوينس آيرس – كما يسمونها بالإسبانية، حل ولي العهد السعودي في بلده الثاني الإمارات العربية المتحدة، ومن ثم في درة الخليج الجميلة البحرين، ومن ثم أخذت الرياح الطيبة طريقها من الخليج إلى أرض الكنانة وأم الدنيا، التي يلتقي فيها الأحباب من أي جهات، ومن ثم حل ولي العهد في العاصمة التي كثرت تعاليل تسميتها، فمن مقسم دون أن يحتاج على أن التسمية قادمة من الونس والسعادة التي تحل بقلب كل من يزورها للطف معشر أهلها وكرمهم اللامتناهي، إلى قائل إن مدينة الربوة ذات المنحدرات كانت رمز التخييم والمرور السريع ومحطة للمتجهين مع الرياح الطيبة إلى مقاصدهم.

لكني انحزت هذه المرة إلى تعليل صديقي الأمازيغي الذي قال لي إن تونس في لغة أهلنا الأمازيغ تعني قضاء الليلة، ومن تكن رحلته طويلة مثلي يا صديقي، فلن يهنأ حتى بإكمال الليلة التي ذهبت سريعاً مع حب السادة التوانسة، وفرحتهم بالزيارة التي أكدت عُرى المحبة القديمة بين الشعبين الشقيقين حين اختصر الكثير بقوله: مستحيل أن أمر بشمال أفريقيا دون أن أزور تونس، ودون أن أقف عند والدي الباجي السبسي، ولم يتأخر الرئيس الباجي في رد المحبة بمثلها، مذكراً أن سياسة المراحل هي مدرسة الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، وأن العلاقة السعودية التونسية علاقة متجددة مهما تقادمت المراحل.

الأربعاء حلت المملكة بوفدها العريض على قمة العشرين، فمن شقيق محب لأشقائه العرب إلى رقم صعب على طاولة القمة التي تناقش ما استجد من صعوبات على الاقتصاد العالمي، الأرقام التي يؤمن بها ويتابعها ولي العهد ساعةً بساعة هي التي تحدد كونك عضواً من عدمه، هنا طاولة المصالح المشتركة ووقت اللقاءات الجانبية التي يظهر أثرها على شاشات الأسهم فوراً في عواصم الدنيا.

من يعرف نفسه جيداً يعرف كيف يختار أصدقاءه وحلفاءه، ويعرف أيضاً ثقله الحقيقي على خريطة الدنيا، لذا غرد الأمير خالد بن سلمان قائلاً: «تقود المملكة، ممثلةً في سمو سيدي ولي العهد، من خلال (رؤية 2030) التغير الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة، الذي نأمل أن يسهم في دفع المنطقة بأكملها نحو آفاق أوسع من الازدهار والرفاهية للشعوب».

والرياض ليست شريكاً يستهين به من يجيد لغة الأرقام، ولن تجلس فقط عضواً في نادي العشرين لتناقش العقبات وتقترح الحلول، بل تستعد أيضاً لاستضافة الجميع بعد عامين، فلم تعد بعض العواصم تحتكر القمم والمؤتمرات الدولية، لكن صاحب الرؤية سيجعل الأعلام في كل موسم تملأ شوارع الرياض والوفود تملأ الفنادق وشوارع المملكة.

ولن يكون ناريندرا مودي – رئيس الوزراء الهندي – الوحيد الذي سيقابل ولي العهد، رغم أنه أكثر المدهشين – على الأقل بالنسبة لي – في العامين الأخيرين، فالرجل الذي يستحق مقالاً كاملاً عن إعادة طباعة العملة الهندية لإجبار بلد متعدد الطبقات كثير المزارعين على دفع الضرائب من خلال نقلة اقتصادية مؤلمة في البدء، لكن مثمرة على المدى الطويل، كان حاضراً بسمت الهنود وصمتهم الذي لا يتعارض مع كونهم أحد أقوى اللاعبين القادمين من آسيا رفقة الصين وكوريا وإندونيسيا، وأستراليا وتركيا اللتين تصنفان سياسياً لا جغرافياً بشكل كامل ضمن آسيا، وبالطبع اللاعب القوي الذي يصافح أصدقاءه بعكس البرود الذي يُوصف به طقس بلاده، روسيا بوتين القوية.

ثمانون في المائة من إنتاج العالم يجلس في هذه القاعة الكبيرة، ثلثا سكان الكرة الأرضية ينتمون لمجموعة العشرين هذه، وخمسة وسبعون في المائة من حجم التجارة العالمية يُدار من زعماء هذه القمة التي تُوصف بالقمة المتحركة كل عام، فتارة في واشنطن وأخرى بمدينة الرياح الطيبة والنسيم العليل، وأخرى قادمة بعد عامين إلى قلب نجد.

لندن التي تشغل العالم بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ممثلة بتريزا ماي، قابلت الأمير القادم من بعيد، وباريس التي مع ألمانيا ميركل تحاول الحفاظ على أوروبا الجديدة، أيضاً كان لها نصيب مع الوفد السعودي، لقاء ودي بين ولي العهد ورئيس الولايات المتحدة أيضاً كان على شاشة الأخبار المهمة في القمة، تطلع أرجنتيني لاستثمارات سعودية قد يقرب المسافة بين الرياض وأميركا اللاتينية.

لكن الصورة الأكثر تداولاً هذا الأسبوع وربما الأشهر، كانت بين الرجلين اللذين يجلس بلداهما كي يقررا سعر برميل النفط من أجل أن تدور المصانع وتتحرك السفن ويثبت سعر الصرف هنا وهناك.

صورة لم أجدها أبداً خارج سياق الأرقام، السياق الذي جاء بنا من سياسة المراحل التي بدأها الملك عبد العزيز وذكرنا بها مضيفنا في تونس، وذهب بكل الرياح الطيبة ولي العهد الشاب كي يكمل السياق القديم – الجديد.

ذهب ليثبت مكانة بلاده، ويجددها، في وقت كان الحاقدون يتحدثون فيه عن أنه في عزلة، فعزلهم هم وتحليلاتهم، وهمشهم مع وسائلهم بحضور بهي، وفاعلية سياسية واقتصادية مبهرة.

تركي الدخيل

نقلاً عن (الشرق الأوسط)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *