لن تنجحوا أبداً

سبق أن كتبت في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) من ،٢٠١٤ ونشرته هذه الصحيفة، مقالة بعنوان: “إيران في الكمين”، وكان ذلك في أعقاب تحرك الحوثيين وانكشاف طموحاتهم نحو الوصول إلى الحكم في اليمن بدعم من إيران. وقد جاء في مقدم ما كتبت في تلك المقالة: “أخيراً أوصلت الظروف إيران إلى المكان الذي لن يحسدها عليه أحد، سيتعلم ساسة الجمهورية الإسلامية من اليوم دروساً جديدة لم يعتادوا عليها في كل تدخلاتهم السابقة في شؤون الغير، دولاً أو أحزاباً”.

اليوم تتحقق تلك القراءة وها هي إيران تجد نفسها في ذلك المكان الذي حتماً لم ولن يحسدها عليه أحد. ورطت الحوثي الذي قدم دروساً مجانية لما يمكن أن يكون عليه الشخص الأهوج، ثم تخلت عنه، وأصبح حديثها يتمحور حول الحاجة إلى احتواء الأزمة بالطرق الديبلوماسية. لكن متى؟ بعد أن دفعت تصرفات هذا الحليف الطائش المملكة ودول الخليج إلى التدخل عسكرياً، وتلا ذلك بالطبع تأييد ودعم عالمي لهذا التدخل. تخلت عنه ووجدت إيران نفسها وللمرة العاشرة في عزلة تامة، كما اعتادت عليه في الكثير من تدخلاتها.

لا أذكر في أي وقت من الأوقات التي تلت ما يسمى “الثورة الإسلامية” في أعقاب سقوط الشاه ووصول أصحاب العمائم إلى السلطة في إيران. لا أذكر أنني سمعت إن هذه الدولة الدينية تعيش في سلام وأمن. أنا أتحدث هنا عما يزيد على ٣٦ عاماً من البقاء في الحكم كانت كفيلة بنقل إيران إلى واحة غناء من الرخاء والتنمية والازدهار بما تمتلكه من موارد طبيعية وجغرافية وقدرات بشرية خلاقة. وأقولها بكل أسف بأنني لا أعتقد بأنني سأشاهد هذه الصورة عن إيران في القريب. الحاكم المستبد الجاهل بتغيرات العصر ومسببات التنمية والرخاء كما هي الحال في إيران، والذي لا همَّ له إلا البقاء في الحكم، لا يرى استمراره على الكرسي إلا عبر اختلاق الأعداء والحاجة إلى مواجهتهم. حياتهم حال مستمرة من الطوارئ، يتخللها الكثير من القمع. الغريب، وإذا استثنينا حربهم مع صدام حسين، أن ليس في الواقع لدى إيران أعداء. العكس هو الصحيح فقد استبشرنا واستبشر العالم بتنصيب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في ١٩٩٧، كونه رجلاً مستنيراً ومثقفاً ومتصالحاً مع نفسه. استبشرنا خيراً؛ لأننا في العالم الإسلامي عامة أحوج ما نكون إلى السلام والبناء والتقدم. بقي خاتمي في الحكم ثمان سنوات غلب عليها الصراع بينه وبين مراكز القوى غير المنتخبة في مدينة قم. وكلنا يتذكر ما حدث بعد أن انسحب من الترشيح مرة أخرى في ٢٠٠٩ لمصلحة موسوي، وما أعقب ذلك من مظاهرات تم قمعها بالقوة ووصل بقدرة قادر ذلك الأرعن المسمى أحمدي نجاد إلى الحكم والبقية من الأحداث نعرفها جميعاً. القبح الآخر في سلوك قادتها هو إذكاء الطائفية في المنطقة بشكل وصل إلى حد الاقتتال. الكثير من المراقبين يرى من خلال ذلك تحقيق أهداف وأطماع فارسية لا علاقة لها بالمذهب الشيعي أو الانتصار له.

بالمقارنة، وفي الفترة نفسه بل وأقل منها، نمت دول الخليج وارتفعت مداخيلها وتحولت إلى واحات جميلة من الرخاء ووضعت للعالم دروساً في البناء والتخطيط والإبداع. يا للعجب يا إيران، ها هي دولة قطر تفوز بتنظيم كأس العالم بعد سبع سنوات، بل وتنجح في تغيير جدول البطولة إلى الشتاء. ها هي دبي تفوز بتنظيم المعرض العالمي “إكسبو” في ٢٠٢٢، بعد منافستها لمدن عالمية عريقة، وتتحول ناقلتها الجوية الجديدة إلى الناقلة الأولى عالمياً. ها هي السعودية تحتل موقع الريادة سياسياً في المنطقة وتشيِّد أضخم المشاريع التنموية في طول البلاد وعرضها، ولعل أكثرها كلفة وبريقاً مشاريع توسعة الحرمين الشريفين إلى مساحات غير مسبوقة. ها هي المملكة توفر تريليونات الريالات للغد، وتصبح عضواً في مجموعة العشرين أقوى اقتصاد في العالم. ماذا فعلتم بإيران يا مشايخ قم وإلى متى؟ هل هو البرنامج النووي الذي أصم آذاننا، وتتفاوضون مع الغرب اليوم على سلميته من عدمها؟ ما جدوى القنبلة النووية وشعبكم يئن تحت وطأة الفقر والجريمة والمخدرات والسطو!؟ ما جدوى ذلك وأنتم تمارسون قمع الأقليات السنية وتنكِّلون بهم في جرائم تقشعر منها الأبدان؟ ما جدوى وقوفكم مع المجرم بشار الأسد والذي لا يشارككم “بشرفه” أي دولة أخرى؟ إلى متى هذه العزلة وهجرة المبدعين من بلادكم إلى الغرب؟

على أن من حسنات هذا السلوك الإيراني التي صبت لمصلحتنا هي بروز القادة السعوديين الجدد بما يملكونه من حيوية وهمة وعزم وحسم. فبعد أن تسلم البطل المغوار الأمير محمد بن نايف ملف الأمن، ثم تحول وبسرعة البرق إلى أروع قائد عسكري وأمني في مواجهة الإرهاب، وشهدت له بذلك كل دول العالم، ها هو الأمير محمد بن سلمان يقود «عاصفة الحزم» في سن مبكرة من حياته ويضرب أروع أمثلة الشجاعة والتخطيط والقيادة. لقد برز مع مواجهاتنا الأمنية ضد الإرهاب والغدر وفي عملياتنا العسكرية ضد انقلاب الحوثيين في اليمن قدرات هائلة في التخطيط والعزيمة لم يكن أكثرنا تفاؤلاً يتوقعها. الأزمات تخلق الأبطال ومن فضل الله علينا في المملكة ودول الخليج ومصر أن رزقنا الله بهذه النجوم السعودية المضيئة.

ومن حسنات جنون إيران وهواجة الحوثي أيضاً أن تعرفنا إلى الحاجة إلى بناء التحالفات العسكرية، ونحن أحوج ما نكون إلى ذلك. نعم ها هي تحالفات دول الخليج، إضافة إلى قوة درع الجزيرة تتمدد شرقاً وغرباً؛ لتضم قوى معتدلة لا يستهان بها، وأقصد بذلك مصر والمغرب والأردن وباكستان. اليوم نعيش تحالفاً قوياً ورادعاً ويجب أن يبقى. اقترحت مساء الخميس الماضي عبر حسابي في «تويتر» أن يتم تأسيس هذا الحلف كمؤسسة شبيهة بحلف الناتو وأن تكون قيادته سعودية ومقره في مدينة سعودية أيضاً. وفي قمة شرم الشيخ وحتى كتابة هذه الأسطر تتجه الأنظار إلى تأسيس قوة عربية مشتركة. كيفما اتفقنا. أعتقد بأن الحاجة إلى وجود هذه القوة اليوم كمؤسسة قائمة بموازنة مشتركة وتدريبات ومناورات وتطوير مستمر لم يعد ترفاً، بل أمرا فرضته الحاجة؛ من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت والتي ستتحقق مستقبلاً.

فهد الدغيثر

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *