الخطة «ج»: تنحوا جانباً أيها «الإخوان»… لتمر الديموقراطية

ماذا يريد الإخوان المسلمون، أن يحكموا أم أن تسود الديموقراطية التي تدعهم يعيشون وتدع غيرهم يعيش؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد خطوتهم التالية بعد أسبوع حافل بأحداث مفصلية من الدوحة حتى تونس.

أمامهم الحقائق التالية، أن شرارة الربيع العربي قدحت في لحظة تاريخية مناسبة لم يخطط لها أحد وإنما سنن إلهية، ثم مضت وتركت البشر يرتبون أمرهم بعدها، فمن أحسن التصرف فله ومن أساء فعليه، ولن يستطيع أحد أن يرتب لها من جديد، أو يبدأ دورة ثانية تعوضه عما فاته.

الحقيقة الثانية، أن النظام العربي القديم ومن حوله طائفة معتبرة في كل دولة عربية تتوجس خيفة من التغيّرات الجذرية التي حركتها موجة الربيع، وهي مستعدة أن تقاوم بشراسة هذا التغيير أو الإسلام السياسي المتداخلين، بقوة صناديق الانتخاب، وقد عبّرت عن ذلك مرتين في استحقاقين انتخابيين حقيقيين، الأول الانتخابات المصرية عام 2012 التي فاز فيها الرئيس المصري المعزول محمد مرسي بنسبة ضئيلة، ولكن «عشيرته» من الإخوان رأوا نصرهم فقط، واعتبروه شرعية مطلقة. ولم يروا أن هناك نصفاً آخر، رفضوا التغيير، وقبلوا بالنظام القديم ممثلاً في اللواء محمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، تكرر الأمر نفسه في تونس الأسبوع الماضي بفوز الرئيس الباجي قائد السبسي، وهو لا يقل تمثيلاً عن النظام العتيق وليس القديم فقط، فهو وزير من زمن الستينات، ولكن الجيد أن التونسيين «حتى الآن» اختاروا استقرار النظام القديم مع الديموقراطية، وبالتالي بقي الربيع العربي في تونس بتعايش نظامه القديم والجديد والإسلاميين واليسار والنقابات، والحفاظ على الحريات العامة والصحافة الحرة، مع وعد بعدم إقصاء أي طرف للآخر في تجربة باتت تمثل أملاً لنجاح الربيع العربي، ربما تخفف من ضيق غلاة النظام القديم في تونس به والقوى الخارجية التي تقود حركة مقاومته.

قيلت تبريرات كثيرة في شرح أسباب مقاومة النظام العربي القديم للربيع العربي، ولماذا لم ير فرصة لنفض أثقال وتشوهات مئة عام من الفشل، خصوصاً في الجمهوريات العربية التي تشكّلت بعد الحرب الأولى، مثل تمسّك الطبقات الحاكمة المتنعمة بمزاياها وغنائمها، أو الخوف من تمدد التغيير ليشمل حتى المستقرين، ولكن ثمة نظرية معتبرة فسرتها الأحداث التي جرت خلال السنوات الأربع الأخيرة، هي أن «الإخوان» سبب تعطل سعي نحو التغيير.

قد لا تكون نظرية مقنعة، ولكن لا بد للإخوان من قبولها، عليهم أن يقبلوا قواعد المعركة مثلما يفعل أي قائد عسكري يدير ناظره في ساحة المعركة فيعرف أماكن قوته وثغرات ضعفه ومكامن الخطر.

لقد صرح النظام القديم بعدائه للإسلام السياسي من دون مواربة أو تلميح، فقرر أنه تنظيم إرهابي في أكثر من بلد عربي، يحاسب من يثبت انتماؤه إليهم بالسجن، ما يشير إلى أن التوجس منهم حقيقي كما سلف القول، ليس من قبل السلطات الحاكمة وإنما حتى من طبقة شعبية واسعة تحيط بها، بل إن بعضها غضَّ الطرف عن معارضته السابقة لها، أو تبرمه من استبدادها واستئثارها بالسلطة، فتحالف معها وقبل، بل برر بطشها بتيارات الإسلام السياسي، مستنداً إلى أن الإخوان هم أيضاً أظهروا استعداداً لفعل الشيء نفسه والتحالف مع الجيش والنظام القديم مقابل تركهم يحكمون.

أثناء صعود الإخوان خلال بدايات الربيع العربي، لاحظت حجم التوجس، بل حتى الكراهية نحوهم من كثيرين، خصوم لهم أو من تحولوا إلى خصوم بعد صعودهم، بحثت عن إجابة مقنعة، فالتنافس السياسي أمر طبيعي، ولكن لماذا كل هذا التوجس؟ أزعم أنني اهتديت للإجابة عند من هو حليف الإسلام السياسي، قصتهم الناجحة، الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان، في صراعه مع حليفه السابق الداعية فتح الله غولن، صاحب التنظيم الواسع والثراء وملايين الأتباع، الذي لا يستطيع حتى أردوغان نفسه إنكار فضله في إعادة الاعتبار للإسلام في تركيا ونشره مجتمعياً، ولكنه في النهاية لم يحتمل وجود «تنظيم سري» موازٍ للدولة، يتسلل للقضاء، والشرطة، والتعليم، ومفاصل الدولة، خفية، يتواصل في ما بينه، لأفراده شبكتهم الداخلية الخاصة، يدعمون بعضهم بعضاً، مترابطون حتى أسرياً وعائلياً، فسماه أردوغان «الكيان الموازي» واتهمه بمحاولة تقويض الحكومة والانقلاب عليها، وها هو يقدم قياداته للمحاكم بما في ذلك غولن المقيم في الولايات المتحدة.
باختصار، لا أحد يحب «التنظيمات السرية» حتى أردوغان، وكان على الإخوان معالجة ذلك فور سقوط نظام مبارك وانطلاق مشروع الدولة الديموقراطية التعددية في مصر، لقد كان الخوف أو التخويف من «التنظيم السري» أهم أدوات وأسباب الصراع مع الإخوان في زمن ما قبل سقوط حكمهم، وكان أيضاً سبب توحّد طوائف متباينة ما كان ممكناً أن تتوحد لولا الخوف من «العشيرة، والجماعة، وحكم المرشد».

نعود إلى سؤال بداية المقالة «ماذا يريد الإخوان، الحكم وعودة الشرعية أم الديموقراطية؟» التي يمكن بها أن يستأنفوا حياتهم السياسية فوق الأرض، وتخرجهم وأبناءهم من المعتقلات، وتتنفس مصر وغير مصر الصعداء، وتستطيع أن تمضي نحو بناء ديموقراطية حقيقية وصحية، يحتاج هذا تضحيات مؤلمة من الجميع، أولها أن يتنحى الإخوان عن الطريق جانباً، يوقفوا كل احتجاجاتهم التي باتت «احتجاجاتهم فقط» وليست احتجاجات شعبية، ويتركوا عجلة الديموقراطية تمر، ففي مصر قوى عدة تريد استكمال مسار الديموقراطية، حتى الإسلام السياسي بات ممثلاً في قوى جديدة، بل إن داخل النظام القديم من يرى ضرورة الدفع نحو الديموقراطية والتعددية وأنها شرط للنهوض بالبلاد، ولكن ما من هؤلاء مستعد لمشاركة الإخوان، ليس مهماً لماذا، المهم إدراك هذه الحقيقة والقبول بها.
ليس مهماً من ينتصر، المهم أن تنتصر الديموقراطية وتسود.

جمال خاشقجي

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *