المشردون في مدننا.. وسبات «الشؤون الاجتماعية»

بعض المظاهر الاجتماعية -على رغم الرخاء الظاهر في بلادنا- تكشف لنا أن بعض أفراد المجتمع يعيشون في ظروف معيشية واجتماعية ونفسية لا يمكن أن نتخيلها، فقد عايشت تجربة شخصية عندما مررت بحديقة جميلة وصغيرة وبطرفها مقهى صغير، ولمّا وصلت إليه وجدته مغلقاً، ولكن تفاجأت بوجود شخصين من مواطني هذا البلد في حال لا يمكن وصفها من العوز، فهما يسكنان في تلك الحديقة منذ أكثر من عامين، وقد استأذنتهما وقضيت وقتاً جاوز الساعة في الحوار وتبادل الحديث، وقد سألت في البداية العم صالح إن كان يمكننا أن أعرف سر هذا التشرد والحال التي أوصلتهما إلى هذا فقال لي بلهجته المحلية لإحدى مناطقنا العزيزة: إذا كنت تريد أن تحزن وتتحمل سماع مآسينا فأهلاً بك. قبلت عرضه وقص عليَّ قصته، وقال: إن له منزلاً يملكه في جنوب العاصمة، ولكن تطورت مشكلاته مع أولاده وزوجاتهم، وضيقوا عليه في حياته، ففضل التشرد وحياة الشوارع والتهيان، بدل أن يعيش في كنف أسرته ويرعاه أولاده.

وتذكّر زوجته الحبيبة وقال: إنها على استعداد أن تعيش معه في أي مكان هو يريده، ولكنَّ أبناءه يمنعونها من ذلك. أما إخوته وأقاربه فلا يسألون عنه! قد يكون العم صالح صادقاً في ما ذكر، وقد يكون أخفى بعض الأسباب الأسرية التي أوصلته إلى هذه الحال. أما الشخص الآخر أو المشرد الثاني فهو أصغر سناً، وكان يقرأ إحدى الصحف الرياضية، وبدأ بحكايته التي هي أكثر غرابة من قصة العم صالح، على رغم أنه مقل في حديثه عن حالته، ولكن السبب الرئيس لبداية رحلة التيه التي يعيشها هي بسبب والده، حيث كان متزوجاً من والدته وأنجبته، وهو طفلها الوحيد، وتوفيت بعد فترة قصيرة من ولادته وتزوج والده من امرأة أخرى، ورزق منها بأطفال، ولكن المشكلة أنه يختلف عن إخوته من حيث اللون، فرفضه والده وإخوته لهذا السبب! نعم هذه عينة لدينا، نشاهد بعض ملامحها في مدننا الكبيرة، ونشاهد المشردين ولاسيما الرجال منهم، يسكنون تحت الأنفاق وفي بعض الأحياء الشعبية المهجورة، ويهيمون على وجوهم، في معاناة دائمة، وأكره أن أقول إننا بدأنا بالتعود على وجودهم في شوارعنا.

قد نفهم وجود المشردين في شوارع المدن الأوروبية والأميركية كنتيجة للرأسمالية الجشعة، ولكن كيف يحدث هذا عندنا ونحن مجتمعات تدَّعي المحافظة والتماسك الأسري؟! صحيح أن إشكال الأسرة لدينا قد تبدلت من الأشكال الممتدة التي تراعي وتساعد أفرادها إلى شكل الأسرة النووية الصغيرة. هل أصبحنا مجتمعات ذات صبغة معقدة وأنانية وجشعة تبرز مثل هذه الظواهر غير الإنسانية؟ فإذا كان هذا هو الحال التي وصلنا إليها فهذه الفئة لها حقوق يجب أن تقدم لها منا نحن المجتمع، فعلى الجهات الرسمية ولاسيما وزارة الشؤون الاجتماعية أن تقوم بدورها وتدرس مثل هذه الظواهر في مدننا، والغريب أنني لم أطلع على دراسة أو مشروع علمي من هذه الوزارة لدرس أحوال هؤلاء المشردين والهائمين.

فهل هناك أسباب أسرية أو اقتصادية أو أمراض نفسية أو قضايا مخدرات تنتج مثل هؤلاء المساكين، وقد حاولت معرفة إن كانت لدى وزارة العمل دُور إيواء لمثل هؤلاء، ولكن لم أجد إجابة مقنعة، فبعض الجمعيات الخيرية تحاول مشكورةً مساعدتهم، ولكن باعتقادي أن وزارة الشؤون الاجتماعية هي من يتحمل المسؤولية في تشخيص مثل هذه الحالات وإيجاد الحلول لها، ولن أتحدث عن مثل هؤلاء المشردين بأنهم يشوهون جمالية مدننا، فهذا ترف، ومن العيب أن نقوله، بل علينا أن نعمل على توفير الحياة الكريمة لهم على رغم كل الظروف التي تحيط بهم، وأن نعالج أسبابها. فمتى تفيق هذه الوزارة من سباتها وتنزل إلى الميدان، وتساعد هؤلاء المواطنين والمقيمين الذين يلتحفون الأرصفة والأنفاق في مدننا؟!

عقل العقل

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *