يغلبني الجاهل

كان يحضُر مجلسهُ رجلاً يبدو عليه الهيبة والوقار، قليل الكلام، أنيق، وكان أبو حنيفة لكبر سنه وإرهاقه، يحتاج لأن يمد رجليه، ولكنه كان يستحي من “ذو الهيبة”. وفي أحد دروسه تكلم عن أوقات النهي عن الصلاة، بأن أوقات النهى من بعد صلاة الفجر حتى طلوع الشمس. فسأل “ذو الهيبة”: وماذا لو طلعت الشمس قبل صلاة الفجر؟. فضحك أبو حنيفة وقال مقولته: حان لأبو حنيفة أن يمد رجليه.

ومن أروع ما نُقل عن الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه مقولته: ما جادلني عالم إلا وغلبته، وما جادلني جاهل إلا وغلبني. وهذه حقيقة نلمسها في حياتنا، لكون الجاهل: (1) لا يملك ما يخسره. (2) يرتقي ظاهرياً بمجرد الحديث مع العالم. (3) لا يوجد لديه قواعد ثابتة يمكن إعادته إليها عندما يشطح. (4) يمكنه الخروج متى ما أراد من الموضوع، وتدمير الأسس، التي بني عليها الحوار. (5) يتمكن من قلب الجد للمزاح، وتحقير أي قيمة للعالم، والتشكيك بنواياه. (6) لا يرتجي من الحوار فهماً، ولا يأمل في الحصول على معلومة، بقدر اثبات وجوده. (7) يقصدُ من حواره أن ينال من قيمة محاوره، لذلك فقد يستخدم كُل الأسلحة، من غمز ولمز، وقهقهة.

وبنظرة لمنتديات الحوار في عموم دول العالم الإسلامي، والتي لا أشك بأن من يتحاورون فيها على قدر من العلم والمعرفة، ولكنهم في نفس الوقت يظهرون ما يجعل بعضُهم جهلة. فيظهرون ما لا يبطنون، وتلك معضلة الجهل الحقيقي، فعندما يقابل الشيخ امرأة يتحاور معها بمنطق غريب، وكلمات راقية، وعبارات تكاد أن تفضحه، وعندما يعود لمحبيه، يخبرهم بأنه إنما كان يفعل ذلك كما ولو أنه كان يتحدث مع فئة من المؤلفة قلوبهم!.

ويتحدث ابن هذا المذهب مع ذاك، لا بنية الوصول للحقيقة، بقدر ما نشعر بأنه مصارع عنيف، يتحين انشغال الحكم، ليضرب خصمه تحت الحزام.

ويدعي المتحرر، أنه يقدر ما يقوله السلفي، ويتفهمه، وهو أول من يعود للتشكيك به وبنواياه، عند أول منعرك.

الجهل أنواع كثيرة، وأشدها ما يكون باستخدام ذكائنا للإطاحة بالآخرين، والالتفاف على أفكارهم، والتشكيك في نواياهم، وتأكيد أنهم غاوين، لا منطق لهم.

وتلك قمة الجهل، فالحوار هنا لا يكون عقيما ونرتاح منه، بل إنه قد ينجب الكثير من الذرية المشوهة، مما يزيدنا إرهاقا وتشتتا، وتشكيكا.

كم هو مفيد وجميل الحوار، إذا كان بين طرفين محترمين، لا يعتقد أحدهما أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، ولا ينفي عن الآخر مساحات فكره، طالما أنها لا تزيحه هو عن الساحة، ولا تنفي مداركه.

ثقافة الحوار مهمة، وقد تكون أهميتها أكثر من وجود المعلومة، وإنتقاء من نحاورهم شرطاً أساسياً للخروج من الحوار بمكسب لكلا الطرفين، وبأقل الخسائر، فمن يملك المعلومة يتمتع بأن يوصلها للطرف الثاني، ومن يجهلها يتعلم ويرتقي بمعرفته ومداركه.

شاهر النهاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *