خربشة ومغزى

“مَرْثِيَة مدينة أور .. أدب سومري”

أحمد بن عبدالله الحسين

أدب الرثاء
تم نقله كجزء من حضارة بلاد الرافدين، حينما فكَّ الغربيون القرن الثامن عشر وما تلاه رموز الكتابة المسمارية، تلك الكتابات نُقشت على ألواح الطين المطبوخ (الرقيم). من خلال هذه الكتابات، استطاع الباحثون الأركيولوجيون معرفة كُنْه أسرار حياة هؤلاء الأقوام. المرثيات هي إحدى المكتشفات التي تم كتابتها آنذاك، حملت عناوين سُمي بعضها؛ لعنة مدينة آكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية مدينة أور.

مرثية مدينة أور
تُعد واحدة من أقدم نصوص الرثاء والمناحات المنقوله لمدينة تاريخية سومرية. أور كانت عاصمة السومريين حينما سقطت بيد الغزاة العيلاميين حيث أصابها منهم هول التدمير والحرق. وأور عند السومريين هي مدينة الإله لوجود معبده ومختار أقامته. والمرثية سياقاتها صورت التوجع وما حصل من هدم للمعبد، وتشرد الساكنين، حتى ذهب بعضهم إلى ما فُسِّرَوه أن الآلهة تخلت عنهم وعتبت عليهم.

مدينة أور
العاصمة السومرية تقع على نهر الفرات، والآن مكانها بضع كليومترات عن مدينة ذي قار (الناصرية) جنوب العراق. وذي قار التاريخية كنزت ما يزيد عن ألف موقعا أثريا، يعود بعضها إلى عصر فجر السلالات والحضارات السومرية والأكدية والبابلية والأخمينية والفرثية والساسانية وكذلك العصر الإسلامي. أما أور فقد احتفى بذكرها العهد القديم التوراة بأنها مدينة النور، وموطن أبي الأنبياء ابراهيم.

أشعار المرثية
فيها ما يُقارب 430 سطرا يعود نصها التاريخي إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. والمرثية ملحميتها تصف ما حلّ في أور بعد اجتياح العيلاميون وهم أقوام سامية، قدموا إلى العراق من الأحواز التي هي الآن مُحتلة من قبل إيران. المرثية فيها نحو اثنين وعشرين لوحا طينيا، اكتشفها فريق التنقيب من جامعة بنسلفانيا الأمريكية منذ عام 1889م.

المرثية
تضع غزو العيلاميين بسياق ديني درامي، وتعزو ما حدث لمدينة أور إلى غضب الآلهة على المدينة؛ حيث هجرت الآلهة معابد أور وتخلت عنها، فأصبح توجعها كحال غزالة قُضِيَ عليها بآلة صيد.

تقول المرثية ببعض نصوصها على لسان الآلهة تندب مدينتها:
اليوم الذي كنتُ أخشى
يوم العاصفة ذاك
قد كُتب عليَّ وقُدِّر
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع
الليلة التي كنت أرتعد منها
ليلة البكاء المر
قد قُدِّرت عليّ
لم أستطع الهرب
أمام ليلة القضاء تلك
جفا الرقاد وسادتي والأحلام
لأن الأسى المر
قد قُدِّر على أرضي وشعبي
سعيت إلى شعبي
كما البقرة على عجِلها
فلم أستطع نشبه من الطين.

وتستمر المرثية
في وصفها لإور وما دخل من سِجال الآلهة حول ذاك الدمار، إلى أن تنتهي بالتماس الرحمة من قِبَلِ إله القمر واسمه نانا، وهو ماثل أمام الآلهة أنليل وهو سيد الريح والعاصفة ويُسيّر البشر في الأرض قائلا:
أي ذنب جنته مدينتي (أور)
حتى أدرت وجهك عنها
افتح ذراعيك
خذ إليك مدينتي
انشلها من وحشتها
دع اسمك يعلو في أور مجددا
وأهلها يتكاثرون من أجلك
فاجاب أنليل؛
قلب المدينة يبكي
وناي القصب فيها ينوح
فإنك لن تقايض بالدمع شيئا
لقد منحت أور سلطانا
ولكنها لم تُمنح دواما
كذا فسلطان أور
قد اجتُث وولى

مرثيات المدن
ألهمت الشعراء وكُتاب الفن الملحمي والمسرحي لصناعة مراثي للخرائب التي لم تنقطع عبر الزمان، وبعضهم يتفنن في الإخراج للتفجع والبكاء، وغالبا يحذو بخاتمة فيها بارقة أمل لولادة تلك المدن المدمرة.

أوجه بلاغة مرثية أور
تطال أطياف الإبداع الأدبي في تصوير معاناة وهموم، مستخدمة ضروب المجاز والاستعارة الرمزية للطبيعة كالتحذير من عواصف الغُبار المدمرة، والريح الممطرة الهوجاء لمناخ بلاد الرافدين، وتشبيه الأسلحة مثل المطر يصحب سقوطها دوي وَجَلَبَةٍ.
المرثية فيها مجاز درامي وافر للحيوانات، فالثعلب عنوان الدمار ، والنعجة ترمز للخضوع حين الذبح، والماعز الأم التي هلك جديها بين المواشي كيف تحزن، والثور بخُواره في مربطه رمزا للازدهار، وحضائر المواشي والأغنام خصوبة ونمو، والعصفور رمزا للانطلاق، والسمك علامة للحياة.

تنتهي المرثية
إلى نهاية حزينة وكأنها تشف مُحاكاتها معاني سرمدية تتابع لمرثيات مُدن زماننا التي لم تُدّون بعد. وبلاد الرافدين ما برحت تزفر بأنين تساجل صداه عبر الأثير إلى يومنا.

ختاما:
مرثية أور تراث أدبي طرز بلاغة ومجاز مرصوص السبك، درّت به حضارة الرافدين وتخلد بتعاقب الأزمان، وما ملحمة جلجامش الشهيرة إلا من هذا المعين. ومرثية أور عند الباحثين اكتست بدلالات تاريخية فيها طبيعة التعلق بالغيبيات والمعبودات ونواميس الحياة آنذاك.

ردان على ““مَرْثِيَة مدينة أور .. أدب سومري””

  1. يقول هشام بن علي الغامدي:

    موسوعه اخي ابوعبدالله كل موضوع فيه جديد نوار الله دربك

  2. يقول جلوي القحطاني:

    ابدعت ياصاحبي والابداع لك عادة وليس في تميز لغير العادة مكان او بارقة امل … استمر 🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *