الجريمة المستحيلة!

صورة الكاتبات
منيره العبداللطيف

الإنسان كائن مزدوج في طبيعته خلق من مادة وروح. وأودع فيه نوعان من القوى، نوع تأخذ بيد صاحبها إلى الخير وأخرى تدفعه إلى الشر. قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، فسلوك الإنسان أما أن يكون متفق مع الأخلاق والقانون والنظام أو متخلف عنها.

ولهذا تعد العقوبات في الإسلام قسم من شريعته, وهو حماية المصلحة العامة, والمحافظة على الضرورات الخمس وهي – المحافظة على النفس، الدين، العقل، النسل، المال- والجريمة لا شك بأنها اعتداء على إحدى هذه الأمور، فالسرقة اعتداء على المال، وشرب الخمر اعتداء على العقل.

فإذا كانت هذه الجرائم تمثل اعتداء، فلا بد من عقاب رادع يمنع الآثم من أن يستمر في إثمه. قال تعالى:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ) وعليه فإن الجريمة تشكل خطرًا كبيرًا، وارتكابها يعد انتهاكًا لحرمة المجتمع وأمن الدولة والأفراد. تمر الجريمة بعدة مراحل فهي تبدأ بفكرة، ثم عزم على إتيانها، وأخيرًا الإقدام على فعلها. فإذا وصلنا إلى غايتها ونتيجتها فهي جريمة تامة، وإذا لم تتحقق غايتها فقد تكون جريمة مستحيلة وهي محاولة لارتكاب جريمة يستحيل تحقق غايتها الجرمية مهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك. واستحالة الجريمة قد يرجع لسببين أولهما انعدام محل الجريمة، كمن يطلق النار على إنسان ميت بقصد قتله، والثاني عدم قدرة الوسيل على تحقيق النتيجة، كمن يضع مادة غير سامة في طعام آخر بقصد قتله.

وهنا يكّمن السؤال: هل يمكن معاقبة صاحب الفعل على أساس أنه شارعًا في الجريمة؟

ظهرت فكرة الجريمة المستحيلة في الفقه الألماني والفقه الفرنسي في نهايات القرن التاسع عشر وتلقفها الفقه المقارن، وانقسم الفقهاء إلى مذهبين، الأول: يرفض فكرة الجريمة المستحيلة، ويعتبر أن نشاط الجاني هو شروع في جريمة خائبة لذا يستحق العقاب. بينما ذهب الثاني: بأن الجريمة المستحيلة تختلف عن الشروع، فالثاني نتيجته محتملة الوقوع ولكن أوقف أو خاب لأسباب لا دخل لإرادة الجاني. بينما الأول نتيجته مستحيلة التحقق لذا من غير الجائز المعاقبة عليها.  أما التشريعات الوضعية فقد خلت أغلبها من النص على الجريمة المستحيلة وأعتبر ذلك بمثابة رفض لها، ولعل السبب في عدم النص عليها حتى يتسنى للقضاء أن يطبق أي مذهب دون خشية التصرف.

والشريعة الإسلامية لا تعاقب على مجرد التفكير ولا العزم، ولكن ما إن تخرج هذه الفكرة لحيز التنفيذ واعتبرت اعتداء أو تهديد للآخرين، تعد معصية موجبة للمسؤولية لذلك لأنه لا يعفى من العقاب في حال ظهور النية الجريمة لدى الجاني. يقول النبي صل الله عليه وسلم: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار, قال الراوي: فقلت يا رسول الله هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه”.  وبذلك تدخل هذه الجريمة ضمن التعزير على المعاصي، لخلوها ضمن نصوص الشروع المعاقب عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *