الرأي

لستَ عادياً

حنان الحمد

كاتبة وباحثة في مجال الاستشارات التربوية والتميز المؤسسي

الجرح الغائر!

كان طفلا جميلا جدا في العاشرة من عمره، الملفت أن ملامحه كانت مختلفة عن والدته التي كانت لا تغفل السؤال عنه طوال الوقت، لم يكن يشغل بالها سوى ماذا أكل وماذا شرب وهمها الأكبر ألا يخرج للسكة للعب مع أقرانه خوفا عليه من الأذى، كل الأطفال كانوا يغبطونه على دلال أخته الكبرى له، فطلباته كانت أوامر، كبر ذلك الفتى ليتفاجأ بأخته تضع غطاء على رأسها ويصدم بحقيقة أنه تربى في كنف عائلة أحبته ورعته لتعوضه عن تخلي والديه عنه، هذا الطفل الجميل أصبح شابا متعلما ورب أسرة مندمجا في مجتمعه متجاوزا صدمة أنه كان نقطة حلال بين حرامين.

وددت أن أهمس في أذنه لأقول أنا ولدت ولم أختر القدوم لهذه الدنيا، لم أختر أمي وأبي وعائلتي ولا حتى اسمي، أنت كذلك لم تختر أن تأتي إلى هذه الدنيا ولم تختر أمك ولا أباك ولا اسمك، الفرق الجوهري بيني وبينك هو الجرح الغائر الذي تسبب فيه والداك لك، لكن هل تعلم انك محظوظ بأن هذا الجرح الغائر جعل عائلتك الوطن بأكمله، فقد تخور قواي ولا أجد حولي من يمد يد العون من المحيطين بي لكن أنت لم تُترك وحيدا منذ أن احتضنك الوطن بمؤسساته وأفراد مجتمعه، أنت مجهول الأبوين ولكنك محبوب الجميع ولديك من الآباء والأمهات المحبين الكثير، سيظل ذلك الجرح غائراً وسوف تتناساه مع الوقت عندما تكبر وتنخرط في المجتمع وتصبح لك عائلتك وأبناءك الذين ستحتضنهم بحب ولن تتخلى عنهم مهما حصل.

لقد مرت تجربة رعاية الأيتام مجهولي الأبوين في السعودية بمراحل عدة للتغلب على المصاعب التي تواجه هذه الفئة في المجتمع ابتداء من رفض وتنمر البعض عليهم واستغلالهم مرورا بتسميتهم بمسميات مؤذية للمشاعر وصولا إلى قبول المجتمع لهم والاندماج فيه دون أن يتأثروا بجرحهم الغائر، فمجهولو الأبوين يمرون بمراحل مختلفة في فترة الطفولة والمراهقة والشباب ولكل منها آلية لدعمهم ورعايتهم من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وأثناء تلك المراحل يمرون بتحديات مختلفة مثل الانتقال المفاجئ للأطفال الذكور من دور الرعاية التي تشرف عليها السيدات إلى دور تدار من قبل موظفين رجال مئة بالمئة ويعيشون مع أقرانهم طوال الوقت وهذه بيئة ليست طبيعية ليكمل فيها حياته مما يسبب لهم صدمة نفسية وقد يكونوا عرضة للتنمر أو التحرش وغيرها من المشكلات النفسية والاجتماعية المعتادة في مثل أي مجتمعات مماثلة، أما الإناث فعند بلوغهن مرحلة الشباب والاعتماد على النفس تصبح حياتهن محاصرة بمحدودية الخيارات ما بين الزواج أو البقاء تحت وصاية الوزارة! والجدير بالذكر هنا فإن الأيتام مجهولي الأبوين تشرف عليهم الإدارة العامة لرعاية الأيتام بوكالة الوزارة للرعاية الاجتماعية والأسرة بالإشراف على كافة شؤون الأيتام ورعايتهم، وتهدف إلى العمل من أجل وضع السياسات العامة لرعاية الأطفال الأيتام ومن في حكمهم والفئات الاجتماعية ذات الظروف الخاصة من مجهولي الأبوين وشمولهم بالرعاية والتربية والإصلاح وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة بأساليب علمية حديثة من خلال الدور والمؤسسات الإيوائية، أو متابعة رعايتهم داخل الأسر الكافلة أو الصديقة، وتقدم الإدارة العامة لرعاية الأيتام خدماتها عبر إدارتين فنية متخصصة هي إدارة شؤون الأيتام، وإدارة الرعاية الإيوائية، أي أنه لا يترك أي طفل مجهول الأبوين وحيدا ليواجه مصيرا مجهولا.

الحياة ليست وردية..

قال الله تعالي ” لقد خلقنا الإنسان في كبد”، وقد فسرها بعض العلماء أن الله خلق الإِنسان لهذه الشدائد والآلام، التي هي من طبيعة هذه الحياة الدنيا، والتي لا يزال يكابدها وينوء بها، ويتفاعل معها حتى تنتهي حياته، ولا فرق في ذلك بين غنى أو فقير وصالح أو طالح.. فالكل يجاهد ويكابد ويتعب، من أجل بلوغ الغاية التي يبتغيها، أي أن حياة الإنسان ليست وردية وليست سلسة سواء كان معلوم أو مجهول الأبوين، وعليه لابد أن يتم العمل على تنشئة هذه الفئة الرائعة ليكونوا مستعدين للحياة بدء من دور الرعاية والأسر الحاضنة، فهم بأمس الحاجة لمهارات وأدوات التمكين ليشقوا طريقهم بعيدا عن سيطرة جرحهم الغائر، وليتكامل مع ما قطعته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من أشواط جيده في خطوات دمجهم في المجتمع وتحقيق الاستدامة في هذا الدمج من خلال تشجيع زيادة أعداد الأسر البديلة أو الحاضنة المناسبة وشرط الرضاعة والمتابعة الدائمة لتلك الأسر لضمان بيئة صحية وسليمة لهم وغيرها من القوانين والإجراءات، والأجمل أن يتم دمجهم في المجتمع بطريقة أكثر فاعلية من خلال إلغاء ما يسمى دور الرعاية لتتحول إلى منزل طبيعي مثل أي منزل تعيش فيه أسرة طبيعية في مجتمعات طبيعية حيث يقوم كل عضو فيها بدوره على أتم وجه.

التمكين ثم التمكين

وفق ما ورد في صحيفةالبيان بتاريخ 19 فبراير 2011م فإن عدد الأيتام مجهولي الأبوين في السعودية يبلغ 17 ألف طفل وطفلة، هذا العدد لا يستهان فيه – ولا أعلم إن كان هذا العدد يزيد أو ينقص في عام 2020م – ولكن احتواء هذه الفئة وتمكينهم من خلال التعليم والإعداد النفسي والاجتماعي وتوجيه قدراتهم ومهاراتهم لابد أن يكون هو الهدف رقم واحد لدى جميع الجهات المعنية وكذلك القطاع الثالث ممثلا بالجمعيات التي تستهدف الأيتام مجهولي الأبوين، ولعل جمعية كيان للأيتام مجهولي الأبوين مثالا رائعا في هذا المجال، فالتمكين يخرجهم من دائرة الاعتماد الدائم على الآخرين في حل مشكلاتهم أو إدارة شؤونهم إلى الاستقلال والقدرة على اتخاذ القرار وحمايتهم من أي أذى قد يتعرضون له سواء داخل دور الرعاية أو مع الأسر الحاضنة أو حيثما كانوا في المجتمع الخارجي.

إن رحلة حياة الأيتام مجهولي الأبوين في السعودية تكون بإشراف مؤسسي يحكمه تنظيمات وقوانين سواء كان اليتيم سعودي أو غير سعودي، هي ليست بالرحلة السهلة ولكنها ليست بالرحلة المستحيلة، هناك قوانين تحتاج أن تُعدل او إجراءات لابد أن تُحسن لكنها رحلة تضمن إنسانيتهم وتسعى دائما لحفظ كرامتهم، لذا فإن من يقوم على رعايتهم لا يكفي أن يكون موظفا حكوميا يعمل لأجل الراتب نهاية كل شهر، بل يجب أن يكون إنسانا قبل كل شيء يجب أن يكون راع مسؤولا عن هذه الرعية الغالية، فلا يغيب عن ذهني حب هؤلاء الرائعين لكل من اهتم بهم ورعاهم وحماهم من أنفسهم أو أي اذى سواء من منسوبي الوزارة أو الدور الاجتماعية أو المتطوعين أو المتبرعين أو الأسر الحاضنة، هم ممتنون دائما لكل من أنقذهم من أن يتحولوا إلى أطفال شوارع أو أن يكونوا أطفالاً مستغلين من ذوي النفوس الضعيفة، هم يقدرون الحياة و يقدسون العلاقات الإنسانية والروابط الأسرية فلا تحرموهم إياها.

محظوظ من يحتضن يتيم مجهول الأبوين فقد نال حظا عظيما في الدنيا والآخرة بإذن الله.

رد واحد على “لستَ عادياً”

  1. يقول هلال ابراهيم:

    مقالك رائع
    الايتام فئه المفروض يعيشون بينا وف مدارسنا ومع اطفالنا
    وواجب عينا نحن الآباء تعريف اولادنا فيهم انهم زينا مافي فروق بيننا
    وحثهم على معاملتهم معامله عاديه زينا زيهم
    لانو من الاساس مافي اختلاف بين البشر الا بالتقوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *