سيلُ الجائحة المظلم ونهرُها المضيء!

بادئ ذي بدء، لا يَخفى علينا أن تأثير الجائحة عبَرَ كلّ المدن، والدول، بل كلّ البشر، وتركَ جرحًا لا يبرأ؛ بالأخصّ لمن فقد عزيزًا عليه! أصبحت الجائحة بمثابة الكابوس في الحلم، وتشكّلت لنا في الواقع على هيئة كورونا، وما زلنا ننتظر أن نستفيق من الكابوس كالنائم الذي ينتظر الحلم السيئ أن ينتهي!

وعلى العكس من ذلك، فإن الشخص الذي يحلم حلمًا جميلاً سعيدًا، يرغب ألّا ينتهي هذا الحلم! كذلك كنّا -قبل الكورونا- في واقع سعيد وجميل، واختلافنا عن الحلم أنّنا لم نُدرك أنّه واقع جميل إلّا حينما أصابنا الواقع المرير؛ عرّابه الكورونا، وعلاجه التباعد، ونتائجه العزلة!

من هنا يقودنا الأمر إلى العزلة التي لعبت دورًا محوريًا في هذه الجائحة -الكابوس إن أردت-!

العزلة -في أصلها- هي مقتصرة على الشخص نفسه، واختياريّة -غالبًا- من قِبل الشخص، ولا بأس بالعزلة النسبيّة التي تكون مفضلة عند بعضهم، لا سيّما حينما ينعزل الشخص للعبادة، والتفكّر -جزء من العبادة- في خلق الله، والتأمل، واستثمار الوقت في تشرّب الكتب، والثقافة، والأدب. وغالبًا ما تكون هذه العزلة مفضلة؛ إذا اختارها الشخص برغبته.

أما الجائحة، فكانت كالسّيل الكبير المظلم الذي عَبَر المعمورة، وجَرفَ كل الأفراد، والجماعات، والدول، بل سكّان هذه الأرض جميعهم!

وبجانب السّيل نهرٌ مُضيء متزامن مع نشأة السّيل، يجلس أمامه قلّة قليلة من الناس؛ بعضهم مَن يغترف بيده من النهر، ويتنفّس رائحته، ويتأمله!

وفوق هذا السّيل والنهر ما هو أشبه بالجبل؛ يجلس فوقه غالبيّة الناس؛ خوفًا من ذلك السّيل؛ فأصبح الذي فوق الجبل يرى الناس تنجرف في السّيل، وفي الوقت نفسه يرى بعضهم يغترف من النهر الصغير المُضيء بجانب السّيل!

والسّيل -مجازًا- هو المرض وتَبِعاته، والجبل -العزلة- هو المسكن، ونهرُ الجائحة هو العلم والمال.

سيلٌ غرق بهِ بعض الناس، وبعضهم وقع ولم يغرق، والذين غرقوا فيه هم الذين رحلوا بسبب الجائحة -غفر الله لهم-، والذين سقطوا فيه -يحاولون النجاة- هم الذين تضرروا من هذه الجائحة؛ سواء من الناحية العملية، أو الماديّة، أو النفسيّة؛ حيث فَقْدهم لوظائفهم، وخسارة بعض المشاريع، والمعاناة النفسيّة، والقائمة تطول… وجميع مَن في الأرض خَشِيَ هذا السيل؛ فاضطرّ الغالبيّة أن يجلسوا فوق الجبل -عزلة البيت- وهم يتأملون الذين ينجرفون في السيل، وعلى الضفّة الأخرى يتأملون أصحاب النهر الذين يغرفون منه العلم، والمال، والثروات بشكلٍ عام!

قد تتعجب -أخي القارئ- من أن بعضهم قد استفاد من هذا النهر -نهر الجائحة-، ولكن لنا في المستثمرين -رجال الأعمال- خير مثال، وهم الذين تضاعفت ثرواتهم؛ مثل: مُلّاك شركة “زوم”؛ إذ لا يخفى علينا تحوّل تطبيقهم إلى قاعات دراسيّة، واجتماعات، وندوات؛ ساهم في مضاعفة ثرواتهم بشكل خيالي، كما أن بعض العوامّ استغلّ نزول أسعار الأسهم، واستثمر فيها، وتضاعفت ثروته!

الاستفادة لا تقتصر على الناحية الماديّة؛ فبعضهم استفاد -ما هو أكثر أهميّة- من الناحية الفكريّة، والثقافيّة، والعلميّة، وهم الذين راجعوا أنفسهم في هذه العزلة، وتشرّبوا العلم من خلال الكتب، والثقافة، وكانت الكتب -في السابق- حاجزًا دونهم؛ لعدم توفّر الوقت لدى بعضهم فيما مضى!

أمّا الذين بقوا فوق الجبل، ينظرون إلى ازدياد الثروات والعلم من زاوية، والإصابات من زاوية أخرى؛ فهم الأشخاص الذين لم يكتسبوا، ولم يخسروا أي شيء من هذه الجائحة، وهم فيما هو أشبه بالمنطقة الرماديّة!

لا بأس بأن تكون فوق الجبل، وأن تكون في منطقة رماديّة؛ فالجائحة أثّرت نفسيًا في بعضهم، لا سيّما الذين اعتادوا على تبادل العلاقات الاجتماعيّة، والمناسبات، والاجتماع مع الأحباب، والأصدقاء!

المشكلة ليست في جلوسك فوق الجبل، وأنت تتأمل النهر، والسّيل -بصورة شموليّة- دون فائدة، وإنما المشكلة تكمن في عدم الإدراك بأنّك فوق الجبل، لا أكثر!

إذا كنت من الذين فوق الجبل؛ فكن متأملًا بصورة إبداعيّة شموليّة، ولا ضير أن تكون شاعريّة -كما نتأمل من خلال هذا المقال-. وفيما يخص إدراكنا للتأمل، أتذكر مقولة (جوستاين غاردر): “إدراك الإنسان لجهله هو شكل من أشكال المعرفة”. إنّ إدراك الجهل معرفة، ولا أشفق إلّا على الذي يعتقد بأنّه عالِم -مدّعيًا المعرفة- وهو جاهل!

الجهل لا يعيبك طالما أنّك تقرّ به؛ لأنه سيدفعك إلى العلم، ومهما بلغت من العلم سيزداد جهلك، وهي علاقة طرديّة؛ إذ كلمّا اكتسبت نقطة من العلم؛ اكتشفت بحرًا جديدًا من العلم، وهكذا دواليك في زيادةٍ من الجهل والعلم في آنٍ واحد؛ علاقة غريبة!

ما يميّزك عن غيرك: إدراك الجهل؛ فالذي لا يُدرك الجهل سيبقى كما هو، ولن يكتشف أنهار العلم، ولن يتشرّب نقطة منه، والمصيبة إذا كان يدّعي المعرفة!

كما أنّ إدراك الجهل لا يختلف كثيرًا عن إدراك التأمل؛ فحينما تدرك بأنّك فوق الجبل، ستشاهد الذين رحلوا، أو فقدوا أموالهم ووظائفهم؛ فتحمد الله الذي فضّلك عليهم، ورزقك الصحة، والعافية، وراحة البال. كما أنّك ستُدرك أن هناك أشخاصًا استفادوا من النهر المُضيء، وهذا سيدفعك إلى أن تعمل مثلهم، وتتنفّس العلم.

إن غفلت عن إدراك التأمل؛ سترضى بالمنطقة الرماديّة -فوق الجبل- ولن تستفيد، وتذكّر أن الذي لا يُدرك الجهل سيبقى جاهلًا، والذي لا يُدرك جلوسه فوق الجبل سيبقى جالسًا لا أكثر، وهو يرى غيره يغترف من النهر!

نحمد الله أن لدينا قيادة رشيدة متمثلة بالملك سلمان-حفظه الله-، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-؛ إذ ساهما في تقليل أعداد الذين تضرروا من خلال دعم وزارة الصحة ومنسوبيها، الذين كانوا أبطال هذه الجائحة!

كما ساهمت قيادتنا في دعم الأشخاص الذين خسروا وظائفهم من خلال برنامج “ساند”، الذي ساهم في دعم القطاع الخاص؛ كي لا يتضرر الموظفين.

ولا ننسَى توجيهات قيادتنا الحكيمة في تذليل العقبات أمامنا -بوصفنا طلاّبًا- من خلال وزارة التعليم المتمثلة بمعالي الوزير الدكتور حمد آل الشيخ، التي ساهمت في جعل الفصول الافتراضيّة تعادل -قدر المستطاع- الفصول الحضوريّة، وكان عرّابها الكادر التعليمي دون استثناء -جزاهم الله خير الجزاء-، ولا ننسَى قادة الجامعات، وأخصّ بالذكر رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة أ.د. أحمد العامري الذي ساهم في تذليل المصاعب والعقبات، والشكر موصول إلى الكليّات جميعها، وأخصّ بالذكر عميد كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية د. محمد مكني الذي عمل -وما زال يعمل- على تذليل المصاعب أمام أبنائه الطلاب، وبناته الطالبات، ولا ننسَى أعضاء هيئة التدريس والإداريين الكرام الذين ترجموا هذه التوجيهات، وتذليل العقبات، إلى واقع ملموس يفخرُ به كل طالب وطالبة!

نحمد الله الذي فضّلنا على كثيرٍ من الدول، ونحن ننعم -ولله الحمد- بقيادة حكيمة، تسهر على خدمة شعبها؛ لتحقيق أعلى مستوى من مستويات التقدّم المعيشي، والاجتماعي، والعلمي، والصحي، والثقافي؛ نسأل الله أن يزيل عنّا هذه الجائحة ونحن بأتم صحة وعافية، وأن يحفظنا، ويحفظ قيادتنا، وشعبنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، والاستقرار.


عبد الله بن صالح بن عبد العزيز بن سلمة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *