خربشة ومغزى

“المعتصم والتّرك”

أحمد بن عبدالله الحسين

الدولة العباسية
منذ نشأتها عام 132هـ/750م ، دعمتها الحِراب الخراسانية (نسبة إلى إقليم خراسان) ليظهر فيها الفُرْس قوة ذات نفوذ، دفعوا بفتن وثورات، كثير منها يرمي إلى إحياء أمجاد ساسانية، او إنهاك كيان الدولة.
وهذا معروف تفصيلا في تاريخ الدولة العباسية ، التي امتدت لما يربو عن خمسة قرون وحكمها سبعة وثلاثون حاكما.

حدة الصراع العربي الفارسي في الدولة العباسية، استمر حتى قدوم المعتصم الحاكم الثامن بعد أخيه المأمون في السلالة العباسية. وهو من أولاد هارون الرشيد وتُوفي عام 842م.
والمعتصم أُمه أم ولد تركية اسمها مارده، وكان ذلك له أثر حين أدخل المعتصم العنصر التركي، محاولا بذلك تخفيف حِدة ما بين الفرس والعرب، وذلك بإنشاء جيش جديد من الأتراك.
هذا الجيش أتى بعضه مرتزقة بادئ الأمر، وجزء آخر جلبته له سوق النخاسة رقيقا.
ومنهم كذلك ما كان يأتيه ويقدمه الولاة من رجال كخراج متوجب عليهم في بلاد ما وراء النهر (نهر جيحون) التي تشكل جزءا من آسيا الوسطى.

الأتراك الذين أخذهم المعتصم أصبح بعضهم في تالي الزمن قادة جيش وبطانة خاصة في بلاط الحكم.

المعتصم
رأى في الأتراك حين مقدمهم إليه، أنهم لا يتماشون مع الروح الحضارية التي بلغتها بغداد آنذاك. فما كان منه إلا أن فتح للأتراك مجالات تعلم العربية والقرآن، مع دروس في العلوم الطبيعية والسياسة بما في ذلك التدريب على شؤون الدولة والاندماج مع طبقات المثقفين والأمراء، حتى إذا بلغ أحدهم كفاية تأهل وخدمة لمولاه والبلاط العباسي ، يتحرر من عبوديته ويتولى منصبا يتناسب مع قدراته.
وبهذا المنهج بدأت تترجح كفة الأتراك على العرب والفرس في أغلب مناصب الدولة. وهذا دفع بوادر سخط عند العرب من هذه الهيمنة التركية.

البغداديون
كانوا الأكثر في إظهار التذمر لما يرون من حوادث تتكرر بسبب اختيال الأتراك وأنفة العرب، حتى غدت بغداد مسرحا للاضطرابات الدائمة التي كثيرا ما يقع فيها قتل من الطرفين، وبعضها يقع في الأسواق حينما تجري خيول الجند فتصطدم بامرأة أو شيخ أو صبي أو ضرير .
المؤرخ الطبري، الذي تُوفي عام 923م، أورد في الجزء العاشر من كتابه الموسوعي “تاريخ الأمم والملوك” أن المعتصم كان راكبا فرسه منصرفاً من المصلى في يوم عيد، فابتدره شيخ من أهل بغداد ليحدثه، فنزل الجند الترك ليضربوه فنهاهم المعتصم.
فقال المعتصم للشيخ ما لك فقال له الشيخ: “لا جزاك الله عن الجوار خيرا ، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فاسكنتهم بين أظهرنا”

المعتصم
ما كان منه بعدما رأى الأثر السلبي ونقمة الناس إلا أن رأى أن من الأفضل له ولجيشه أن يتركوا بغداد ويتوجه إلى تمصير مدينة اسمها “سر من رأى” (سامراء) ، وندم في أواخر عمره على ما فرط منه في زيادة نفوذ التّرك، وعاجلته المنية دونما فعل لإتمام ما ندم عليه، بل أُعتبر المعتصم فاتحا لباب طالما أوجع وأنهك السلالة العباسية امتد لزمن طال.

الواثق
اعتلى العرش بعد أبيه المعتصم ليستمر الأتراك، بشكل أدهى وأخطر ومزيد أثر غالبه إضعاف كيان الدولة، وتسلط على الحكام العباسيين الضعفاء.

التاريخ
يُحدثنا كذلك مع تتابع الزمن عن ظهور سلالات طورانية تركية بسطت حكمها وسلطانها لقرون عديدة امتلأت أحداثا وحروبا وأزمات وآثارا على الشعوب المحكومة.
وهي كالتالي: الاويغورية والغزنوية والسلجوقية والعثمانية والخورازمية والتيمورية والقرة قوينلو (الخروف الأسودِ) وكذلك واق قوينلوا (الخروف الأبيض) والصفوية والافشارية والقاجارية.
نفوذ هذه السلالات الحاكمة شمل جغرافية واسعة من ديار العرب المسلمين، وبعض هذه السلالات تعدى سلطانها بلادا أخرى غير مسلمة وكثير منه مؤلم على الشعوب التي تم استحكامها.

التاريخ
رصد زخم هذه السلالات وطبيعة نشأتها ودوافعها الذاتية وسياساتها وتسلطها في الحكم وأثرها على الشعوب، وما لها أو عليها والذي كثير منه تجاذبه نرجسية مؤيدون جانبوا النقد العلمي في تبيان المثالب وخصوم ناقدون ليس لهم دراية شمولية تدفعهم تعميمات في إلغاء المناقب، كلا الطرفين ابتعدا عن موضوعية فهم متوازن ولهذا فقد التدوين التاريخي الكثير من نفعه الذي يتطلب الدراية بتراث هذه السلالات دونما انحياز له.
وهذا الاستقراء البحثي والنقدي يعتبر دقيق المنحى لمن أراد مزيد استبصار.

الفهم البشري
غير مبرء لما يتأثر به حينما يتقمص الموروث التاريخي فيمن حكم البلاد والعباد ولا يخلو من اختلاط الأهواء بالحقائق المروية الذي أبرزته دراسات نقدية.
وحسب الواعي فيما ينشده في كل هذا الشغف البحثي أن الزمان اسدل ستاره بآلامه ومكتسباته، حقائقه وتدليسه، موضوعيته وغلوه، بما في ذلك تراث هذه السلالات الذي امتد بعضه إلى يومنا هذا.
وسيذكر التاريخ لاحقا ما حملته الأيام والأحداث من الآلام والآثار .

ردان على ““المعتصم والتّرك””

  1. يقول خالد المهبدب:

    بوركت يا أبا عبدالله.. دائماً تتحفنا بعلوم من التاريخ وتمتعنا بأحداثه وتفيدنا بأخباره..لا فضّ فوك.

  2. يقول حسن بايوني:

    الله يحفظك يا ابو عبدالله ، معلومات رائعه
    نورتنا الله ينور دربك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *