الرأي

وداعًا كاتب الوطن وصوت البسطاء

حبيب عبدالله

صحفي، عمل سابقا في الوطن، الشرق الأوسط، وصحيفة الوفاق الإلكترونية، ومجلة المجلة، ومجلة الفيصل.

الوطن وابنته وطن.. أبناؤه وأقاربه، وجمعٌ جمٌّ غفيرٌ شيّع الزميل الكاتب صالح الشيحي، كاتب الوطن وصاحب العمود النحيل المثير للجدل، نعاه الوطن وابنته وطن، الوسط الإعلامي والثقافي، جموع كبيرة كانت حاضرة وشاهدة حية على رحيله بكل معاني الحب والإجلال والاحترام ممزوجة بتعابير الحزن والألم على فراقه بهذه الصورة والسرعة، ولأن الناس شهود الله في أرضه، ولأن الناس هم قضيته الأساسية؛ فقد شيّعه الجميع صباح يوم الثلاثاء الماضي في مسقط رأسه في المدينة الشمالية النائية الحالمة رفحاء، بعيد وفاته في العاصمة الرياض بعد معاناة من الإصابة بفيروس كورونا، فيروس صغير خبيث مستبد وليس مستجداً، لم يمهله كثيراً بين أهله وأصدقائه ومحبيه.

صباح الإثنين الماضي فاض العالم الافتراضي بخبر محزن، وكعادة أخبار الصباح المؤلمة، جاء هذا الخبر قاسيًا جدًا على عائلته، وبكل تأكيد على جميع محبيه، لم نشاهد أبا حسام صراحة ومباشرة، إلا قبيل منتصف الليل يوم الأربعاء 24 يوليو 2019م، أي قبل سنة تمامًا، شاهدناه للمرة الأخيرة بفيديو بثته إحدى الزائرات لسجن المباحث العامة في جدة، في ذلك الفيديو أرسل سلامه لزملاء مهنته، قائلا للجميع: “نلتقي في ظروف أفضل”. ومنذ ذلك الفيديو الأخير، لم نراه إلا صباح الثلاثاء مكفنًا محمولًا على الأكتاف داخل المقبرة، وبظروف ليست أفضل كما كان يأمل، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه.

آخر سلام مصوّر من ابن المهنة الصحفية أرسله إلى زملاء المهنة، وليس أصدقائه أو أقاربه، لأنه يعرف دورهم حق المعرفة، ويؤمن برسالتهم النبيلة، ويأمل منهم مواصلة العمل من أجل الوطن، وليس إلا الوطن، ومن أجل المواطنين البسطاء الذي قضى عمره الصحفي مدافعًا عنهم، ناقلًا لهمومهم ومشاكلهم وأحزانهم، معبرًا عن تطلعاتهم وآمالهم. لذا لا ريب أن يكون رحيله فاجعة عصرت قلوبنا وقضت مضاجعنا، استحق أن يكون كاتب الوطن بلا منازع، جمع بين حب الناس الكبير له، وحبه هو لوطنه وقادته وأرضه التي قال بأنه سيموت ويدفه فيها بين قبور أهله وأجداده التي يعرفها وصارت تعرفه، مات وهو لا يملك شقة في بيروت أو القاهرة أو باريس كما هو حال بعض الكتاب والصحفيين. مات وابنته وطن ما زالت تنتظر عودته رافضة تصديق رحيله، وهذا قلب المحب عندما يفقد حبيبه.

ودعه زملاء المهنة، كثير منهم وبشكل مفاجئ أصبحوا أصدقائه المقربين المخلصين، ورغم هذه الصداقة التي ظهرت بعد وفاته، لم يتكبدوا عناء السفر لمواساة عائلته وأيتامه، أو على الأقل الوقوف على قبره والصلاة عليه، في زمن مضى كان بعضهم ينتقده ويعيب عليه أن يكتب للمواطنين البسطاء، إلى درجة أن أطلق عليه أحدهم مستهزءا بأنه “كاتب الضعوف” وأنه يضيع وقته وجهده لأجل ناس لا يعرفهم ولم يلتق بهم يومًا، وأنه لا يعرف مصلحة نفسه.

هم يكتبون للنخبة وللشهرة، يكتبون للأدب والثقافة، يكتبون للإطراء والمديح، تارة توددًا، وتذللًا تارة أخرى، لكن الشيحي يكتب للإنسان، يكتب للوطن. قضيته الأساسية هي الناس كما يصرح دائمًا، لا يكتب من أجل نفسه، ولا يتملق الآخرين طمعًا بما في أيديهم، لم يخجل من ذلك، ولم يتردد يومًا أن يكتب عن معاناة حارس أمن ضعيف أو عامل مصنع، أو بائع خضار، أو امرأة مطلقة وأرملة. 

صالح الشيحي كاتب الوطن وصوت البسطاء، قلب موازين الصحافة والكتابة المحلية، مع صدور صحيفة الوطن عام 2000م حيث عُين رئيسًا لقسم المحليات في مكتب الصحيفة في الدمام؛ استطاع بمعية زملائه في المحليات في مكتبي الدمام والرياض، وبدعم من مدير مكتب الدمام ثم رئيس التحرير الأسبق الزميل طارق إبراهيم، أن يغيروا مشهد صحافة المحليات في السعودية، تغير هذا المشهد تمامًا، صار الخبر المحلي هو الخبر الأكثر إثارة في تناول وطرح قضايا الرأي المحلي والقصص الإخبارية التي تمثل هموم ومشكلات وتطلعات أفراد المجتمع في كل مدينة وقرية.

انتقل الخبر المحلي من المجهول ومن غياهب الجب وضعف الاهتمام إلى أن يكون المانشيت الرئيسي على الصفحة الأولى، مزاحمًا أخبار البترول والسياسة الدولية، حيث ولسنوات طويلة منذ بدايات الصحافة أفرادا ومؤسسات، كانت الصفحة الأولى مخصصة لأخبار السياسة والمؤتمرات والقرارات الدولية والنفط والحروب والصراعات فقط، بينما أُهملت القصة المحلية التي تهم الناس والقراء على حد سواء.

في تلك الفترة القصيرة استطاعت الصحافة المحلية من خلال صحيفة الوطن أن تكسب احترام الجميع، وترفع من قيمة الصحافي المحلي، وعجّلت بظهور أسماء زملاء المهنة في الأخبار المحلية على الصفحات الأولى في الصحف المحلية الأخرى، بعد أن كانوا غير معروفين ومغيبين، وزادت من معدلات بيع الصحف أيضًا، بدأ القراء يعودون إلى رفوف الصحف، وأصبحت الصحف التي حولت بوصلة اهتمامها إلى الخبر والقصة المحلية أن تحقق معدلات بيع عالية جدا، لا سيما في قرى ومدن لم تعرف أرقامًا عالية في بيع الصحف، باستثناء صحيفة الرياضية.

تغير هذه المعادلة لم يأت بسهولة، إنما جاء من ملامسة هموم واحتياجات القراء الأساسية والالتفات إليها والاهتمام بها، وهو الأمر الذي بدأته صحيفة الوطن عبر قسم المحليات، أن يقرأ الناس أخبارهم ومشاكلهم، وأن يشعروا بأن أفكارهم واقتراحاتهم وآمالهم محل دراسة وترحيب، هو المحك للتغيير وكسب جمهور القراء.

وبعد مغادرة الشيحي لمكتب الوطن في الدمام، لم يكتف بما قدم، بل عاد كاتب مقال غير منتظم في صفحة داخلية بالوطن، ولم يمض وقت طويل حتى حققت مقالاته نسبة مقروئية عالية جدًا، مما دفع بإدارة التحرير إلى نقل مقاله إلى عمود نحيل منتظم باسم “لكن” في الصفحة الأخيرة، وهي الصفحة الأكثر قراءة بين جمهور القراء.

ومنذ أن صار كاتبًا في الصفحة الأخيرة قبل 18 عامًا تقريبا، بدأ نجمه يسطع ولكن ليس في القنوات والإذاعات أو المؤتمرات والندوات، إنما في قلوب البسطاء في الشمال والجنوب والشرق والغرب، كان عموده صوتًا ومنبرًا نعرف من خلاله هموم المواطنين والمقيمين على حد سواء، استطاع عموده النحيل أن يستوعب كل أرجاء الوطن، يهتم بنقل هموم الجنوب، تمامًا كما ينتفض كاتبًا عن مشاكل الشمال، ينشر آمال وتطلعات أبناء المدن والقرى الغربية، مثل ما يكتب عن اقتراحات وأفكار مواطنيهم في محافظات الشرقية.

كتب عن تطلعات النساء وطالب بحقوقهن، كتب عن أزمة المعلمات وموتهن على الطرق السريعة، طالب بالاهتمام برجال الأمن والأطباء والمهندسين والأكاديميين، صار صوتًا لطلاب المدارس والجامعات الشباب، دافع عن الضعفاء أيًا كانوا وأين ما كانوا، انتقد المقصرين بكل موضوعية، وأشاد بالمحسنين ومن يستحق الإشادة، شاكس الوزراء والمسؤولين وانتقد تقصيرهم، حتى دفعهم إلى أن يشعروا بالمسؤولية وأن يتابعوا ما تطرحه الصحافة، ويتابعوا المشاكل ويضعوا لها الحلول.

وفي مقال لمدير قناة الإخبارية الحالي الزميل فارس بن حزام، بعنوان “هل يخاطب أمراء المناطق مواطنيهم بمقالات صحافية” (11 إبريل 2006م)، كتب فيه بن حزام عن مقال الملك سلمان -حفظه الله- عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض والذي كتبه ردًا على مقال لصالح الشيحي، حيث أثار هذا الرد الصحفي عاصفة لطيفة وإيجابية في الوسط الصحفي آنذاك، وعبر عن اختلاف ودي في الرأي رفيع المستوى، وتنوع في وجهات النظر بين مسؤول بحجم الملك سلمان وكاتب صحفي يكتب في المحليات، ومما كتبه ابن حزام في المقال: “قد يتلقى الكاتب الصحافي رداً أو تعليقاً على ما يكتبه من أمير أو مسؤول كبير عبر اتصال هاتفي، ولكن أن يتلقاه عبر مقال مواز، وينشر في ذات الصحيفة، فهذا ما يندر حدوثه، والندرة كان آخر أمثلتها الكاتبين الزميلين سلمان بن عبدالعزيز وصالح الشيحي في صحيفة الوطن”. وكان موضع الاختلاف في وجهات النظر في موضوع عن خدمة أبناء المنطقة أو المدينة (أي مدينة) لمنطقتهم أو مدينتهم، حيث يرى الملك سلمان بأن هذا يمثل قمة الوفاء وشجع عليه، وفي الجهة الأخرى يرى الشيحي بأن هذا نوعا ما من المناطقية غير المرغوبة.

إذن لم يكن الشيحي مجرد كاتب مقال مغمور أو عديم الفائدة وقليل الإثارة، بل حظي مقاله بمتابعة من أعلى مسؤولي الدولة، متابعة ليس للبحث عن أخطاء الكاتب أو الصحفي وتقريعه، إنما متابعة اهتمام وحرص على صوت قصي، صوت لا يمثل نفسه فقط، ولا يبحث عن شهرة عبثية أو مصلحة شخصية بقدر ما يبحث عن مصالح جميع المواطنين من كل الألوان والخلفيات، ويحمل هم الوطن، ويقدمه على هم نفسه.

وفي الوقت الذي يتحاور فيه قائد وشخصية عظيمة بحجم الملك سلمان – أيده الله- مع الكاتب الشيحي، اختلاف يمثل أرفع درجات الإنسانية والتحضر والحوار، في الوقت نفسه يقوم وزير هو بالأصل موظف برفع دعوى قضائية ضد الشيحي ويخسرها، إذ لم تكن كل كتابات الشيحي خالية من الإزعاج له، وقام أحد الوزراء برفع أكثر من دعوى ضده، ربح الشيحي أحدها وخسر الأخرى.

وطوال مشواره الصحفي لم يبحث الشيحي عن مصلحة شخصية أو مجد شخصي، أو شهرة عبثية مثل خالف تعرف، ولم يتصيد الأخطاء لأسباب شخصية أو طائفية وفكرية، ولم يبحث عن شقة في بيروت أو القاهرة، ومواقفه في ذلك كثيرة أتذكر أحدها، عندما دعته إحدى المؤسسات الوطنية إلى زيارتها وهي مؤسسة كثرت أخطاؤها ومشاكلها مع المواطنين، فحجزت له أعتقد رحلة دولية على الدرجة الأولى وفي فندق خمس نجوم، ولكن فور عودته من الزيارة إلى مدينة رفحاء، كتب مقالاً في عموده النحيل عن قصور تلك المؤسسة في خدمة المواطنين، وهو ما أثار استياء المؤسسة اعتقادًا من مسؤوليها بأنهم استطاعوا شراء قلمه، لكنهم فشلوا فشلًا ذريعاً مخجلًا، وبهذا الموقف وغيره استحق أن يكون الشيحي كاتب الوطن، الذي لا يمكن أن يبيع قلمه، ولا يمكن لأحد أن يشتريه.

عاد الشيحي مرة أخرى وأخيرة إلى مدينته رفحاء متقاعدًا من التعليم والدبلوماسية ومن كل شيء باستثناء عموده النحيل في صحيفة الوطن. ترك كل شيء إلا هموم الناس البسطاء الذين لا صوت لهم. ولكنه لم يمض طويلًا حتى رحل تاركًا خلفه وطنًا أحبه ويحبه، وابنة سمّاها وطن بحجم حبه للوطن، ترك عائلة مكلومة، وحزن بحجم الوطن.. رحمك الله أبا حسام.

رد واحد على “وداعًا كاتب الوطن وصوت البسطاء”

  1. يقول ابو عبدالله:

    مقال رائع وكاتب اروع.. رحمك الله يا لسان المواطن البسيط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *