الرأي

كورونا والدول العربية ومجتمعاتها!!

د. سليمان الذييب

كاتب وباحث وأكاديمي سعودي

كُثرت في هذا العصر الأوبئة التي تعرض لها البشر بشكل لافت، فقد كانت في العصور القديمة -حتى على كثرتها- محصورة في منطقة جغرافية، وانتقالها إلى أماكن أخرى كان بطئًا. وقد أتاح هذا التأخر في الانتشار -في الغالب- للمناطق الجغرافية الأخرى أخذ الحيطة والحذر. في حين أن الأوبئة حاليًا تنتقل بوتيرة أسرع، فقد أصبح العالم قرية واحدة حتى في المآسي. ولعل من أوائل الأوبئة في الفترة الإسلامية مرض الطاعون الذي نبه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام إلى كيفية التعامل مع مثل هذه الأوبئة وهو “العزل”، وقد طبقته بشكل صارم الصين ونجحت في خلال شهرين من تطبيقه، ليس بهزيمته، بل إيقافه بشكل لفت الأنظار؛ بقوله بأبي هو وأمي “إذا سمعتم بالطاعون في بلد فلا تدخلوها، وإن كنتم فيها فلا تخرجوا منها”، وتذكر الروايات التاريخية عن الطاعون المعروف آنذاك بالطاعون “الجارف”؛ لكثرة ما اجترف من الناس وأهلك، وذلك في زمن دولة عبد الله بن الزبير، فقد وصل عدد الهالكين في يوم واحد “سبعون ألفًا”، ومات فيه لأنس بن مالك الذي دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “اللهم كثر ماله وولده، وأدخله الجنة” – نقول مات لأنس في يوم واحد “ثلاثة وسبعون” ولدًا.

لكن لنقفز ألف عام أو أكثر ونسلط الضوء على فيروس ظهر هذه الأيام وبدأ يحصد ما قدره الله من الأنفس من الصين شرقًا حتى أمريكا غربًا، ولم يكتف هذا الوباء بحصد الأنفس، وهي الأغلى، بل حصد في طريقه أرزاق ملايين من البشر، فأضحى “26” مليون شخص عاطلا عن العمل وأفلس الآلاف من المصانع والشركات، بل لا يستبعد أن تُغير أنظمة وحكومات وتختفي دول ومجتمعات في ظل استمراره القوي؛ وهذا المرض اسمه “كورونا”، وفيروساته كما بينته هيئة الصحة العالمية- هي “زمرة واسعة من الفيروسات تشمل فيروسات يمكن أن تتسبب في مجموعة من الاعتلالات في البشر، تتراوح ما بين نزلة البرد العادية وبين المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة. كما أن الفيروسات من هذه الزمرة تتسبب في عدد من الأمراض الحيوانية”.

وهذا المرض ظهر بهذا الاسم منذ سنوات ومصدره حيواني، لكن خطورته كما فهمت انه متحور ومتحول أي أنه يطور نفسه، فقد ظهر هذا المرض في بلدي الحبيب المملكة العربية السعودية قبل سنوات، توفي على أثره على الأقل- أربعين شخصًا رحمهم ربي؛ وتمكنت السلطات الصحية بالتعاون مع هيئات عالمية من القضاء عليه وكبح جماحه ولله الحمد. لذلك ميزّ الأطباء كرونا هذا العام باسم اخر وهو “كوفيد 19″، وهذا النوع يؤكد ما ذهب إليه أحد أطباء مستشفى الحرس الوطني (رحم الله ملك الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز) من أن خطورة كورونا تكمن في تحوره وقدرته الفائقة على التحور والتحول، فيظهر أنه طور نفسه خلال هذه السنوات، فأصبح ينتقل ليس فقط من حامله، بل من كل ما يلمسه حامل هذا المرض. وهكذا يتبين أن مصدر هذا الفيروس هو حيواني.

وما أثارني ودفعني إلى المشاركة في هذا الموضوع، إذا استبعدتُ شخصيًا ردود فعل العامة المبنية على الإشاعات والقيل والقال والهوى، أقول ما دفعني خصوصًا في عالمي المحبوب العربي الآتي:

1- ردة فعل ما اسميهم بفيروس الجهل في عالمنا العربي اليوم وهم العاملون في الإعلام العربي (المرئي، والمكتوب)، الذين جهلاً منهم وعدم مسئولية جروا المجتمع العربي إلى مستنقعين، هما: المؤامرة، والاستهتار بهذا الوباء، وعدم أخذ الأمر بجدية، فالمرض -كما حاولوا الايهم به- لا يحتاج إلى كل هذه الضجة كما حاولوا اظهاره في البداية (تغيروا بعد اعتراف الحكومات به). وهذا الإعلام (العربي) يعتمد -في هذا الوقت- على برامج اللقاءات بشكل واضح، لأنها الأسهل والأسرع في الإعداد والأقل تكلفة، فهي مثل الأكلات السريعة جميلة في الظاهر مهلكة في الواقع، فبرامجهم، ومقالاتهم هذه مضحكة ومزركشة، لكنها مدمرة للمجتمع وقاتلة لمستقبله، وهي أقرب إلى جلسات القيل والقال.

2- مقال معالي الدكتور “حمد بن عبد الله المانع”، وزير صحة سابق في المملكة العربية السعودية، استقطبته جريدة عكاظ السعودية، للكتابة فيها بعد تركه لعمله في الوزارة. ومقاله هذا أي الوزير لا يمكن تصنيفه إلا أنه مثل (التوك شو) العربية خارج إطار العقل والمنطق من شخصية تقلدت أعلى منصب صحي في الدولة، ومقاله هذا جعلني مع الأسف الشديد أتألم، كيف قضى سنوات ومعاليه على رأس الهرم الصحي، فبدأ بمبالغات (تمامًا مثل بتوع التوك شو) تستخف بعقلية القارئ نحو قوله:

أ- “… فطواقم الصحة الوقائية عندنا من أمهر الطواقم الطبية في العالم، وخطط الطب الوقائي لدينا، من أكثر الخطط نجاعة في العالم، وفكر الطب الوقائي نفسه لدينا متطور، ومرجع هذا تعاملنا السنوي مع ملايين الحجيج والمعتمرين على مدار العام، في ظل انتشار الأمراض الفيروسية في أكثر من موسم، إلا أننا ولله الحمد، كنا نعلن موسم الحج في كل عام خالياً من الأمراض، فما الجديد إذاً؟ وما الذي تغير علينا؟”

ب- …. إبراء للذمة، وقياماً بواجبي الوطني، وأول هذه الحقائق، أن فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19» هو أضعف فيروس مر على البشرية مقارنة بكورونا سارس الذي اجتاح العالم عام 2002م، وكورونا ميرس التي كان مصدرها الإبل، فتخبرنا الأرقام أن نسبة الوفيات في كورونا ميرس تخطت العشرة بالمئة، بينما لم تتعد نسبة الوفاة من جراء فايروس كورونا المستجد اثنين في المئة….”.

ج- أن جميع الذين توفوا من جراء الإصابة بكورونا المستجد إما كبار سن، أو مرضى، أو عندهم مناعة ضعيفة، …… لكن ما أعنيه أن الإنفلونزا العادية التي نصاب بها جميعاً، لها تأثيرها الخطير، بل الأخطر عليهم، من كورونا المستجد…..”.

د- وأتمنى في الأخير ألا يكون العالم بعد هذا الترويع الإعلامي على موعد مع واحدة من أكبر الصفقات التي اعتدنا إدارتها باحتراف من شركات الدواء العالمية وإعلامها المحترف الذي يعرف كيف يحقق المليارات من صناعة الأزمات، مثلما مر على شعوب العالم في حوادث سابقة، كشف عن اتساع دائرة المتورطين فيها، إلى حد وجود موظفين كبار في منظمات أممية بينهم”.

وقد صُدمت إلى حد كبير من مقال معاليه المنشور في 18 مارس 2020م أي في فترة ظهرت فيها حقيقة المرض بشكل أكثر وضوحًا، وتبين للعقلاء أن الوباء وضع يده على نقاط حساسة في حياة البشر والأمم، وهما الأمن الصحي والاقتصادي، أفلم يسمع معاليه أو يُقرأ له عن المليارات التي رُصدت في الدول التي تحترم شعوبها ومجتمعاتها والتي وصلت إلى أن الصين أوقفت مصانعها وشركاتها لمدة شهرين، وأنشأت العشرات من المستشفيات المؤقتة، وأن أمريكا رصدت بليون دولار لمكافحة المرض وأعراضه الاقتصادية والاجتماعية، وأن ألمانيا لوحدها رصدت 500 مليار يورو للغرض ذاته، والخسائر الاقتصادية والاجتماعية، مثل خروج “26” مليون إنسان عن العمل وإفلاس الآلاف من الشركات والمصانع ….إلخ. ألم تعط هذه المؤشرات معاليه وأمثاله مؤشرًا إلى خطورة الوضع؟ أم أن معاليه يعكس عقلية المسئول العربي غير مبال لأي شي إلا لحقوقه فقط؟ ثم لو فرضنا قوله الذي يكرر عند الإعلاميين أيضًا وهي مؤامرة شركات الأدوية صحيحًا وغير مستبعدة، فهل ستنجح هذه الشركات أو إحداها في تعويض مجتمعاتها ودولها بأكثر مما خسرته؟ ……. الله ما شفناه لكن بالعقل عرفناه.

والأمر الآخر الذي لا خلاف عليه ولا ينكره في ظني إلا شخص جاهل، هي الجهود الناجعة ولله الحمد والمنة من قبل الجهات ذات العلاقة -في المملكة العربية السعودية- في مكافحة الأمراض والأوبئة التي تأتي نتيجة إلى الزحام في شعيرة الحج، وأثبتت السنوات الماضية هذه الحقيقة، لكن أن يقول الوزير “طواقم الصحة الوقائية عندنا من أمهر الطواقم الطبية في العالم، وخطط الطب الوقائي لدينا، من أكثر الخطط نجاعة في العالم”؛ هذا ليس فقط مبالغة ولكنها عبارة …….! ولعل من الأدلة الجيدة التي تدل على نجاح الدولة السعودية إضافة إلى إدارتها للحج، هو نجاحها في القضاء على الوباء الذي تفشى قبل سنوات بين الإبل، ووباء الضنك”، ولا شك أنهما منحا وزارة الصحة خبرة في كيفية التعامل مع هكذا أمراض؛ لذلك كان موقف الدولة من توصيات وزارة الصحة واضحًا وداعمًا لها؛ والمثير أن وزيرًا لصحة سابقًا يستهجن أخذ الحيطة والحذر من وزارة كان يومًا ما على رأس هرمها. ولننظر إلى الفارق بين ما يطرحه “المانع” وخمسة وزراء صحة سابقين في إيران الذين وجهوا رسالة إلى رئيس مجلس الوزراء منبهين ومحذرين من خطورة تعامل الحكومة غير المسئول مع انتشار المرض واستغلال الحكومة السياسي للوباء، الذي أدى اليوم إلى وفاة أكثر من ألف إيراني رحم الله الجميع.

أما مقارنته الدالة مع الأسف على حبه للشهرة عند العوام، مقارنته مرض انفلونزا بهذا الوباء، ونقبل هذه المقارنة من غير المختصين، لكن لا يمكن قبولها على الإطلاق من مختص أو مثقف، فالفارق بين الانفلونزا وكورونا (9) أن الطب في الأول عرف أسبابه واخترع علاجه؛ أما كورونا فيُعرف بالوباء لأن الطب لا يعرف علاجه، وهذا الفارق بين المسئول الذي يخاف على مجتمعه والأخر الذي يهمه الشهرة فقط.

3- موقف الدول العربية ومجتمعاتها (شعوبها)، في الصراع العالمي البين والواضح مع هذا الوباء: لا أستطيع القول إلا أني شعرتُ بالأسف من رد فعل الدول العربية، والفارق بين تعامل الاتحاد الأوروبي الاجتماعي والاقتصادي والإنساني مع مجتمعاتهم، وتحرك الجامعة العربية النادي الذي يجب اغلاقه إلى الأبد، من باب توفير المصاريف، فلم أسمع أو أقرا عن أي تحرك للجامعة تجاه الوقوف ضد هذا الوباء واقتراح تعامل جماعي لمكافحته.

وقد فضلت بعض الدول مع الأسف- الصمت خوفًا من ردة الفعل الاقتصادية، ولعل المنظمة العربية الوحيدة التي اجتمع وزراء صحتها هي مجلس التعاون الخليجي، لكننا لم نعرف ما اتفقوا عليه!

أما موقف الشعوب العربية فكان مضحكًا محزنًا مبكيًا، ففي البداية ظهر فريق يقول إنها مؤامرة من أمريكا على الصين، وفريق اخر يقول إنه انتقام من الله وعقوبة على عنف الحكومة الصينية مع المجتمع المسلم الصيني، واتفق الجميع أن العالم العربي والإسلامي بمنأى من هذا المرض لأننا نتوضأ خمس مرات، ولأن بلداننا محمية و و و. وعندما وصلت جحافل هذا الفيروس وبدأ يحصد مجتمعاتنا اقتصاديًا على الأقل، فلله الحمد الأموات مقارنة بغيرنا نادرة جدًا، إذا استثنينا إيران التي ارتكب قادتها جريمة بصمتهم عن الوضع الحقيقي لبلادهم؛ أقول بدأ البعض يقول إن هذا لم يصيبنا إلا بسبب ذنوبنا. لا خلاف أن الذنوب تصيب المجتمع المسلم في مقتل، لكنها أسطوانة يجب أن تقال في مكانها وليس عشوائيًا.
واندهش من هؤلاء الذين يتناسون أن هذه الأمراض انتشرت في المجتمع المسلم إبان عز الإسلام في عهد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وفي فترة الخلفاء الراشدين والخلافة: الأموية والعباسية والعثمانية، فهل انتشرت نلك الأوبية بينهم بسبب ذنوبهم؟

المبكي المضحك الآن، بعد أن ذهبت السكرة، أنها بينت عدة أمور، منها:
– أن المجتمع العربي لم يتخل عن الدور الوحيد الذي يتقنه وهو التشجيع، فانقسم إلى ثلاثة أقسام، عندما ظهرت بشائر العلماء “الكفار” في البحث عن علاج، فمنهم من تمنى وشجع أن تكون أمريكا السباقة، وآخرون تمنوا أن تكون الصين هي الأولى والثالثة رأت أن الأفضل تكون أوروبا.
– كشفت هذه الأزمة الصحية مدى تخلف الطب والأطباء في عالمنا العربي واكتفاء بعض الأطباء بترجمة وتكرار ما ينشر في وسائل التواصل العالمي، والمبكي اختفاء مختبرات الجامعات العربية ومراكزها البحثية، فأين هي مما يحصل اليوم من تسابق بين مختبرات العالم المتقدم… أمر محزن ومثير للقلق.

وأخيرًا أشير إلى نقطة اوجهها إلى أولئك الشامتين (سياسيًا دينيًا اجتماعيًا. . إلخ)، ففي ظني أن انتشار الأوبئة في المجتمعات المتقدمة هي نعمة من الله جل وعلا، لعل أهمها رحمته بعباده الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة (في العالم الثالث)، فقد تبين ليّ أن الأوبئة الكبرى تنتشر في الغالب عند المجتمعات القوية؛ ففي العصور القديمة وجدناها عند الفراعنة وفي الصين والهند، ولاحقًا عند اليونان ومن بعدهم الرومان، وفي الفترة الإسلامية انتشرت بين المسلمين إبان هيمنتهم على العالم، واليوم تنتشر في أوربا والعالم المتقدم.
تخيلوا معي لو أن هذا المرض انتشر في مصر أو نيجيريا أو الخليج أو الأردن أو المغرب أو الهند وغيرها من الدول المتخلفة، فلو انتشر لحصد مئات الآلاف إن لم يكن الملايين، قبل أن تتحرك المختبرات العالمية لإيجاد الدواء الناجع؛ لذلك هي في تصوري رحمة من الله؛ أما نحن فلنستمر بمتابعة الفن الهابط والإعلام الجاهل وتشجيع الأندية وسباقات ما أنزل الله بها من سلطان وخلافات فقهية وقومية ومذهبية، فانشغالنا بهذه الأمور، دلالة حقيقية على أننا في ذيل قائمة المجتمعات المتحضرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *