الرأي

مواسم الشرقية.. فنية و طبية!

مي الصقير

محللة التخطيط الإستراتيجي في مركز جونز هوبكنز أرامكو الطبي ومديرة العلاقات العامة والإعلام في الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع في المنطقة الشرقية.

اكتست الشرقية قبل بضعة أشهر بحلة بهيجة؛ إذ كانت عروس موسم فني على مختلف الأصعدة: موسيقي، تراثي، رياضي، وثقافي. تعالت فيه ضحكات الأطفال و ارتوت منه أرواح كانت متعطشة لكل قطرة ترفيه. ثم، وعلى مضض، أُسدل ستار الترفيه ليرتفع ستار من نوع آخر، ستار حدث طبي كان الأول من نوعه على مستوى المنطقة الشرقية، إن لم يكن على مستوى المملكة. تكاتفت من أجله سواعد جهات أربع لنسق أوركسترا طبية، عزفت ملحمتها الأولى فكان مؤتمر طب الأسرة (الغوص في الأعماق) Deep Dive الذي يُعد انبثاق نوع جديد في التعليم الطبي.

تعاون جبار بين أربعة أصرح وطنية صحية وهي: الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع، التجمع الصحي الأول بالمنطقة الشرقية، مجلس الضمان الصحي التعاوني، ومركز جونز هوبكنز أرامكو الطبي، كان الهدف منه و المحرك له هو تحقيق تطلعات رؤية 2030 الطبية، فجاء التركيز على بل وإنعاش طب الأسرة والمجتمع ، وتسليط الضوء عليه وعلى أهميته كقاعدة أساسية للخدمات الصحية.

كانت التحضيرات لهذا المؤتمر فاتحة للأعين لكل ماهو صعب ومعقد في بيروقراطية الأنظمة و الشح المالي. أعرب الأغلبية عن استعدادهم للمساعدة، وعندما حان وقت التنفيذ، بدأت إشكاليات الرسميات المقيتة وفرض السيطرة. وما أن تم تجاوز هذه المرحلة، حتى وجد المنظمون أنفسهم مقيدي الأيدي مالياً. لكن الرغبة في الإنجاز كانت كفيلة بأن يتعدى المؤتمر حدود الأحلام ليدخل عالم الواقع.

بدأ المؤتمر يومه الأول وتهافت إليه الأطباء والمتدربين من مختلف مناطق المملكة، فاحتضنت المنطقة الشرقية ضيوفها من الشمال والوسط والجنوب والغرب، واكتظت القاعة على مدى أربعة أيام بما يقارب الأربعمائة طبيب ومتدرب. من يحضر المؤتمرات الطبية، يعلم جيداً كيف يخفت بريق الحضور ابتداءاً من اليوم الثاني. لكن في هذا المؤتمر، استمر الحضور حافلاً متحمساً حتى في يومي الجمعة والسبت. أعيد: كان الحضور ملفتاً وغير متوقع في يوم الجمعة بالذات بعد استراحة الصلاة التي تخللت البرنامج، لكن الحاضرين عادوا أكثر حماساً وتشوقاً إلى نهاية اليوم، قرابة الساعة السادسة مساءاً.

رؤية هذا الإلتزام والحماس والتشوق أثارت فضولي، فخرج عن سيطرتي وجعلني استفسر من الحاضرين عن السبب. فكان ردهم محزناً مفرحاً. محزناً لأنه كشف الغطاء عن كثير من النواقص رغم وفرة الكوادر. ومفرحاً لأنه كان إثباتاً لنجاح القائمين على المؤتمر وقدرتهم على سد ثغرة عجز أن يملأها الغير.

ولأن فضولي غلبني مرة أخرى، سألت ذوي الخبرة عن رأيهم في رد الحضور. فكان تفسيرهم كالتالي:

هدَفَ هذا المؤتمر إلى تحديث معلومات الأطباء المزاولين بكل ما استجد في عالم طب الأسرة، وتهيئة الأطباء المتدربين لاختباراتهم. وبسبب طبيعة المادة ودسامتها وما تعانيه المؤتمرات الطبية حالياً من النمطية في التقديم، كان لابد من تقديم المحتوى بطريقة مختلفة وشيقة. فما كان من اللجنة التنظيمية إلا أن أطلقوا العنان لإبداعاتهم. تخللت المحاضرات مقاطع فكاهية ذات طابع الطبي القريب من روح المؤتمر. إضافة إلى ذلك، كان للعقل المدبر لهذا المؤتمر د. هادي العنزي، رئيس برنامج تدريب طب الأسرة في مركز جونز هوبكنز أرامكو الطبي و رئيس اللجنة العلمية و التنظيمية للمؤتمر، لمساته التي أضافها بإنتاج عرضة خاصة لرؤية 2030 تم عرضها مراراً في أوقات مختلفة. هذا غير المسابقات التي أشعلت حماس الحضور و كانت الجوائز تسجيل مجاني للدورات القادمة.
السبب الثاني و أحد مميزات هذا المؤتمر هو المحتوى المطبوع الذي خرج به الحضور. فقد تبين لي أن المؤتمرات، بالذات التأهيلية للإختبارات الطبية، لا تعطي الحضور أي نوع من المحتوى المطبوع بل تكتفي بما تعرضه عليهم. في حين جاء هذا المؤتمر بمحتوى غني جداً خرج به الحضور على شكل كتاب مطبوع بدون أن يتكلفوا أي قيمة مالية إضافية على رسوم التسجيل.
صدقاً، رأيت بريق الحماس في أعين الحضور و سمعت نبرة الإمتنان في صوتهم. الكل فعلاً متعطش لمثل هذه المؤتمرات. و لعل أكبر دليل على ذلك هو حضور شخصية معروفة في المجال الطبي و الأكاديمي رغم تقاعدها، لكن رغبتها في تطوير ذاتها قادتها لهذا المؤتمر و جعلتها تحضر لآخر دقيقة من آخر يوم!
عبّر الحاضرون عن شكرهم و امتنانهم لما رأوه من مستوى جميل في التحضير و التنسيق و التقديم. و خرجوا و كلهم تشوق لما ستقدمه لهم اللجنتين العلمية و التنظيمية في المستقبل. فالأطباء متعطشون، و المجتمع يحتاج، و اللجنتان العلمية و التنظيمية لديهما خطط لكل محور من محاور التحول الوطني في القطاع الصحي. فأين المشكلة؟ المشكلة تكمن في حلقة الوصل بين هذه المقومات، و هي الدعم المادي. و لعل أهم أسباب شح الدعم هو قلة الوعي بأهمية هذه المؤتمرات و البرامج التعليمية و أثرها على الفرد و المجتمع. إذ يجد المنظمون و الغيورون على صحة المواطن أنفسهم يطرقون الأبواب علّهم يجدون من يؤمن برسالتهم و يدعمها. هذا حل مؤقت و لن يدوم.من الواجب إيجاد آلية أفضل لضمان استمرارية الدعم و الذي بدوره يكفل استمرارية مثل هذه المؤتمرات و غيرها من البرامج التأهيلية.
فهل سنرى تفاعل إيجابي أكثر؟ هل سيساهم المقتدرون و صناع القرار في دفع عجلة التحول الوطني للوصول لأهداف رؤية بلدنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *