الرسالة الأخيرة من النبيل عبدالرحمن الشبيلي

كنت كلما نظرت إلى وجهه البشوش دائماً، واستمعت إلى صوته الخفيض، لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في معنى “النبالة”. وصفة النبيل عدا عن معناها اللغوي الواضح ودلالاتها في الإشارة إلى من يجمع كل صفات الشهامة والكرم والشجاعة وحسن الخلق، لم تكن تتخلص من تأثير الدلالة الوافدة في الاستخدام الأوروبي لها للإشارة إلى طبقة النبلاء الذين حكموا أوروبا وإماراتها المتفرقة أصالة أو وكالة، وإلى تقاليد الملكيات الأوروبية التي تمنح هذه الصفات للفرسان الذين ينتصرون في الحروب أو الذين يشترونها بالجاه والمال، أو أنهم ورثوها من أجدادهم.

عبدالرحمن الشبيلي لم تكن تنقصه صفة العراقة الأسرية، ولا الجاه الشخصي، لكنه كان نبيلاً حقيقياً أصيلاً في تركيبته التي خلق عليها، ومن يهبهم الله هذه الصفة لا يحتاجون إلى من يخلع عليهم هذا اللقب لأنه يبقون دائماً نبلاء.

عرف السعوديون عبدالرحمن الشبيلي مع بدايات البث التلفزيوني في الستينيات الميلادية، شاباً وسيماً صاحب صوت هادئ ومقنع وهو يقرأ نشرات الأخبار، أو يدير حوارات معمقة وحيوية مع ضيوفه في برنامجه الشهير “حديث الأصدقاء”، ثم في وقت لاحق يدير حوارات وثائقية مع مجموعة منتقاة من رجالات الوطن لا زالت تسجيلاتها تعد وثائق تاريخية تحكي تاريخ المملكة العربية السعودية من شخصيات عاصرت معارك التوحيد، وبدايات تأسيس الدولة الحديثة. هذه الحوارات التي كان ضيوفها أسماء من مثل الملك سلمان بن عبدالعزيز حين كان أميراً للرياض، والأمير مساعد بن عبدالرحمن والأمير سعود بن هذلول وعبدالعزيز بن ماضي وتركي العطيشان وآخرين لم يكن بمقدور محاور غير عبدالرحمن الشبيلي أن يخرج منهم بمثل هذه الثروة المعلوماتية التاريخية. وهذه الحوارات أظهرت براعته وشغفه الكبيرين بالتاريخ وكتابة السير.

كان عبدالرحمن الشبيلي نجماً إعلامياً باهر الضوء افتقده المشاهدون حين اختفى من الشاشة حتى عرفوا أنه ذهب في بعثة دراسية، عاد بعدها كأول سعودي يحمل شهادة الدكتوراه في الإعلام، واستمر بعدها يمارس دوراً قيادياً في صناعة الإعلام السعودي، مديراً عاماً للتلفزيون ثم وكيلاً لوزارة الإعلام وعضواً أساسياً في المجلس الأعلى للإعلام منذ تأسيسه وحتى حله. ويسجل له في تلك الفترة قيادته لعملية تطوير البث التلفزيوني السعودي تقنياً وتحوله للبث الملون وتأسيس المبنى الحالي لمجمع الإذاعة والتلفزيون بإمكاناته المتطورة التي لم يتم استغلالها بالكامل حتى الآن.

وحتى حينما خرج من وزارة الإعلام بعد خلافات إدارية مع الوزير، بقي عبدالرحمن الشبيلي في الواجهة ولم ينزوي عن المشهد كما يفعل كثيرون حينما يفقدون المركز الرسمي اللامع، فقد كان لديه الكثير ليقدمه، فسرعان ما انضم لهيئة التدريس في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود، حين التقيته وتعرفت عليه لأول مرة، كان دخوله إلى ممرات وقاعات كلية الآداب في مبناها القديم بالملز مبهراً ولافتاً، تسبقه سمعته الإعلامية الناصعة.

درسنا معه تاريخ الإعلام السعودي، واكتشفنا معه أسماء أثرت في المسيرة الإعلامية لبلادنا مع أول صحيفة وأول بث إذاعي، كما سجلت معه أنا وزميلي طلعت وفا رحمه الله وفواز العجمي مادة مشروع التخرج في سنتنا النهائية، واتفق معنا على القيام ببحث يسجل تاريخ بعض أعلام الإعلام السعودي في الإعلام الرسمي والصحافة والإذاعة، وأقنع القسم بتأمين سفرنا إلى عدد من مناطق المملكة لمقابلة الأحياء من الرواد، ولما كان كلفني بعمل الصياغة النهائية لهذا البحث المشترك، فقد سهرت ثلاث ليالي متواصلة حتى أسلم البحث في موعده قبل رصد الدرجات التي كان يعتمد عليها إعلان تخرجنا من الجامعة، وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم الثالث طرقت عليه باب منزله في شارع الستين لأسلمه البحث، فقابلني بابتسامته المعهودة وهنأني على قدوم مولودتي الأولى، ثم أجاب على رجائي بتسريع تقييم البحث وإرسال الدرجات للقسم قائلاً بأنه رصد الدرجات مسبقاً وأن بإمكاني الاطلاع عليها لدى سكرتير القسم، والمفاجأة كانت أنه أعطانا الدرجة الكاملة.

الخلق النبيل في شخصية عبدالرحمن الشبيلي جعله قريباً من طلابه إلى درجة الصداقة دون ابتذال، كان ودوداً إلى درجة أني تجرأت يوماً وسألته عن سبب خروجه من وزارة الإعلام، فابتسم مترفعاً عن الحديث في التفاصيل لكنه أسر لي أن مسؤولاً كبيراً نقل له عن الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله قوله: “إذا كنا خسرنا الشبيلي في الإعلام فلا بد وأن نكسبه في موقع آخر”، وهكذا كان بالفعل فقد تم تعيينه وكيلاً لوزارة التعليم العالي، حيث تشرفت بالعمل معه في مكتبه وتعلمت منه ما لا يمكن تعلمه في الجامعات من سمات القيادة وحنكة الإدارة والهدوء في معالجة الأزمات والدقة في البحث والتقصي قبل اتخاذ القرار.

في آخر ارتباط عملي لي معه كنت عضواً في لجنة رأسها بتكليف من وزير الثقافة والإعلام لوضع الأسس التنظيمية للهيئة العامة للثقافة، وانتهى عمل اللجنة بتقديم تقريرها للوزير، لكن عبدالرحمن الشبيلي حرص على أن تبقى الصلة بين أعضائها قائمة عبر مجموعة في تطبيق الواتساب تمت تسميتها “شرفات” باقتراح من الشاعرة الدكتورة فاطمة القرني، واستمر الحوار قائماً تزينه دائماً رسائل عبدالرحمن الشبيلي الرفيعة المستوى والثمينة المحتوى، كان آخرها تسجيلاً للقاء أجراه الأستاذ محمد رضا نصرالله مع الناقد جابر عصفور، بعث به في يوم الجمعة السابق لوفاته يرحمه الله، ولعله بعث بها من “الشرفة” نفسها التي شهدت الحادث الأليم.

هكذا كان دائماً ينثر المسك على من حوله، ويتذكر زواره أنهم دائماً ما يخرجون محملين بآخر إصدارات الكتب له أو لغيره حيث يشتريها ليهديها لأصدقائه.

أعتقد أن المجموعة ستظل قائمة تظللها روح الراحل الكبير، وفي كل الأحوال فإن رقمه سيظل مخزناً في ذاكرة هاتفي مع أرقام الأحبة الراحلين الذين لا أجرؤ على محوها.

***

أثناء كتابة هذه الشهادة فجعت وأسرتي الصغيرة برحيل نبيل حبيب آخر هو جد أبنائي الرجل الصالح ناصر بن عبدالمحسن أبانمي الذي أهداني زهرة قلبه قبل أربعة عقود وسأظل مديناً له ما حييت على ما أورقته هذه النبتة الصالحة في حياتي ظلالاً وثمارا.

يرحل النبلاء عن دنيانا لكن يتركون خلفهم مصابيح تنير دروبنا.

سلطان البازعي

نقلاً عن جريدة (الحياة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *