الرأي

شقاء الإنسان.. بين شغف ونداءات وأشواق!

محمد الدخيل

كاتب وناقد سعودي

سأحدثك اليوم -عزيزي القارئ- عن نفسك، ولكن اسمح لي أولا أن أعتبر أنك إنسان مختلف من خلال اهتمامك بقراءة مثل هذا النوع من المقالات.

سأدخل لهذا الحديث بداية بالحديث عن القديس أوغسطين ( 354-430، الجزائر ) الذي يعد أحد آباء الكنيسة العظام، وتميز بتحولاته الروحية العديدة، و بحبه للحقيقة والحكمة فدرس الفلسفة وآمن خلال رحلة بحثه تلك بالمانوية فترة من حياته، وعاش طويلا صراع الجسد والروح، وألف كتبا عديدة منها: (رسالة في خلود النفس، وكتاب الاعترافات الشهير، ومدينة الله، وفي الموسيقى).

القديس أوغسطين يمكن أن يكون نموذجا لذلك الإنسان الذي دائما ما تقدمه لنا الحياة ضحية لتنازع مكوناته، وأولها نداءات الجسد التي لا ترحم، ولا تعرف التوقف عند حد، تلك النداءات إلى عوالم اللذة المستهامة، وجمر الشهوات، التي دائما ما تكون في نزاع مع العقل، مضيِّقة عليه مساحات الصفاء التي يحتاجها للتأمل والبحث الدؤوب عن المعرفة، العقل الذي يعيش هو ذاته حالة من الصراع مع ذاته ومع أسئلته الأولى وعلاقتها بما يقدمه له مجتمعه من إجابات عن تلك الأسئلة.
إنه ذلك النموذج من البشر الذين يطرحون باستمرار أسئلة تخترق السائد والمألوف، ويبحثون دائما وبشغف لا يهدأ عن إجابات لأسئلتهم تلك غير الإجابات الجاهزة التي تقدمها المجتمعات لأبنائها، تلك الإجابات الغارقة في التبسيط والتعميم والمختلطة بالخرافة والأسطورة.
إنهم بخلاف غيرهم من الغالبية العظمى من البشر ممن يصح أن تنطبق عليهم مقولة بركلي(قلة من الناس هم الذين يفكرون، لكن الجميع سيكون لديهم آراء)، هؤلاء الغالبية الذين يتبنون ما تقدمه لهم ثقافاتهم ومجتمعاتهم كمسلمات لا تقبل الجدل، والذين يمضون في حياتهم سعداء غير شاعرين باستلاب ذواتهم وعقولهم لذات أعلى وسلطة أكبر هي سلطة تلك المجتمعات التي ينتمون إليها، بحيث لا يعدو هؤلاء أن يكونوا مجرد ناطقين باسمها ومرددين لمقولاتها.

نحن هنا أيضا أمام نداءات الجسد ومعها العقل هذه المرة في صراعهما المرير مع الروح، الروح التي لا تطمئن غالبا إلا لما عرفته في بداياتها الأولى، وما خبرته في تلك البدايات من أغانيها، ومن شكل هويتها، ومن قيم الأهل وأصواتهم، ولذلك فإنه مهما بلغ بها الشطط في البعد عن تلك البدايات، فإنها تعود مطرقة إلى صوت تلك البدايات مع تقدم سنوات العمر، يقودها ذلك القلق العميق الذي لا يسكن، وذلك الشوق الغائر إلى الطمأنينة والسلام، وهي في هذه العودة تقود معها الجسد ليتخلى شيئا فشيئا عن رغائبه، وليصم آذانه عن أصداء تلك النداءات، وتقود معها العقل أيضا ليتخلى هو الآخر وشيئا فشيئا عن شغفه بطرح الأسئلة وولعه بالإجابات البعيدة عما ألف.تقوده – أي الروح – في نشدانها لطمأنينتها للتخلي عما آمن به بعيدا عما حفر وجوده فيهما (في العقل والروح)، في تلك البدايات البعيدة .
إنها الروح من جديد تعود لتقود هذه العناصر الثلاثة التي ما فتئت في صراع دائم، تقودها إلى ما تظنه مرحلة جديدة من التوازن والانسجام بين تلك العناصر، مرحلة جديدة يتطلع إليها البشر عادة آملين فيها بخلود نهائي لأرواحهم يجدون فيه العزاء والسلوى عن كل شقاء في هذه الحياة،و كل عدل لم يتحقق، وكل حبيب يؤلمهم فراقه فتتوق نفوسهم إلى لقائه في مكان آخر أكثر سعة ورحابة وجمالا.

وإذن -عزيزي القارئ- فالقديس أوغسطين يمكن أن يكون أنت أو أنا أو أي واحد منا، إنه النموذج لشقاء الإنسان بين شغف العقل ونداءات الجسد وأشواق الروح!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *