نظام التحرش.. حماية لمشروع التنوير بلا وصاية أو تأزيم!

الحرية لا تعني الانفلات من مصفوفة القيم ومسؤولية السلوك التي يفترض أن يكون عليها الإنسان واعياً وملتزماً، فلا كرامة لإنسان تطاول على غيره، ولا حياة تستحق العيش وكان سبباً في إحداث ألم لغيره، خصوصاً إذا كان هذا الألم مرتبطاً بسمعة الإنسان، وربما مصيره..

يتكون نظام مكافحة التحرش الذي أقره مجلس الوزراء أمس الأول من ثلاثة عناصر رئيسة، هي: المنع، والحماية، والمحاكمة، وجميعها تستهدف الحفاظ على كرامة الإنسان وخصوصيته وحريته، إلى جانب التزام المجتمع بصيانة العلاقة بين الجنسين في العمل والأماكن العامة على أساس النظام، وتطبيقه، والاحتكام إليه من دون اجتهادات، أو تجاوزات، أو حتى خروجاً عن مواده الثماني المحددة.

توقيت النظام الجديد يسبق البدء بتطبيق قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة بأقل من شهر، وعلى الرغم من أن النظام أوسع وأشمل من قصره على قيادة المرأة، إلاّ أن تزامنه يعطي إشارة مهمة في أهمية توفير الضمانات النظامية الكفيلة بمنع أي تجاوزات على المرأة في الطريق أو غيره، ويزيل أي محاولات للقلق أو الخوف من تداعيات قيادة المرأة للسيارة، وهو ما يحتاجه المجتمع في مرحلة مهمة من وجود المرأة بجانب الرجل ليس فقط في الطريق، وإنما أيضاً في العمل، وفي أي مكان عام.

المنع في النظام يشدد على أن الأصل هو عدم التحرش في مجتمع مؤمن بقيمه، وعاداته، وتقاليده التي يستمدها من دينه وثقافته، والاستثناء هو وجود التحرش بأي صورة لفظية أو سلوكية مرفوضة، ولذا كان الوعي هو الأساس الذي يحدد الجريمة من عدمها، فكلما أدرك الإنسان ذكراً أو أنثى أن هناك نظاماً حازماً في التصدي لأي تجاوزات يتحرش فيها طرف على آخر، كلما كان ذلك أدعى إلى الالتزام، والتوقف عن أي ممارسات لا يقبلها المجتمع، ولن تسكت عنها الحكومة، صوناً للقيم، وحفظاً للأعراض، والأخلاق التي يفترض أن يكون عليها الجميع بصيغة الالتزام، واحترام النظام.

الحماية التي نص عليها النظام صراحة تعكس جانبين مهمين، (الأول) الحماية الاستباقية للمجتمع، من خلال التوعية، وتأطير العلاقة بين الجنسين، واحترام كل طرف للآخر، واحتوائها في مظاهر التعبير والمشاركة وخصوصاً في العمل، إلى جانب التأكد من الشكاوى أو البلاغات قبل تقديمها في صور كيدية أو خلافه، و(الثاني) الحماية البعدية لمن وقع عليه التحرش سواء المرأة أو الرجل، من خلال الإجراءات النظامية للبلاغ، والقبض، والتحقيق، وتوجيه الاتهام، والمحاكمة، وكلها إجراءات تقتضي السرية الكاملة كما نص عليها النظام، والضمانات الكفيلة بوجود الدليل أولاً، وصحته ثانياً، وثبوته ثالثاً، وهو ما يتطلب جهداً قبل توجيه الاتهام لأي طرف، لحساسيته الاجتماعية من جانب، ولصعوبة إثباته في بعض الأحيان من جانب آخر.

العقوبة في النظام واضحة، السجن سنتان وغرامة (100) ألف ريال، وقد تصل إلى السجن خمس سنوات وغرامة (300) ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين السجن أو الغرامة في حالات محددة، وهي عقوبة أصبحت معلومة، ومحددة، ولا اجتهاد فيها، ولكن جريمة التحرش إذا تزامن معها جرائم أخرى مثل ما نص عليها نظام الجرائم المعلوماتية من جريمة التشهير أو التصوير وغيرها؛ فإن العقوبة تكون أشد.

المجتمع السعودي الذي نراهن على وعيه، والتزامه، وقيمه؛ سيثبت أن نظام التحرش استثناء من ذلك الأصل، ولكن وجوده ضمانة مهمة لسلامة المجتمع، حيث لا يمكن أن يكون مشروع جودة الحياة الذي أطلقناه ضمن رؤيتنا الوطنية الطموحة بلا نظام يحمي ممارسة الرجل والمرأة في مكان تواجدهما، وتفاعلهما، وعملهما، وتعايشهما معاً في شكل طبيعي ومتجانس؛ فالأخلاق والحفاظ عليها تأتي في سلم أولويات جودة الحياة، وما يليها من تحسين الخدمات وتطويرها في مرحلة لاحقة من الأخلاق.

مهمتنا اليوم أن يدرك الرجل والمرأة أن ما يجمعهما هو الوطن الذي نعيش فيه، ونتمسك به، وندافع عنه، ولا نريد أن نخسر أحدهما في قضية تحرش لا تليق، ولا تعكس مشروعنا التنويري الذي ارتضيناه طريقاً للخلاص من أي وصاية أو تأزيم من أي طرف؛ فالحرية لا تعني الانفلات من مصفوفة القيم ومسؤولية السلوك الذي يفترض أن يكون عليها الإنسان واعياً وملتزماً، فلا كرامة لإنسان تطاول على غيره، ولا حياة تستحق العيش وكان سبباً في إحداث ألم لغيره، خصوصاً إذا كان هذا الألم مرتبطاً بسمعة الإنسان، وربما مصيره.

النظام بلا وعي ذاتي لا يكفي؛ فالمهم أن يكون كل واحد فينا على قدر المسؤولية، ومتسلحاً بالوعي، ويحترم خصوصية الآخر، وحريته، وكرامته التي كفلها النظام والشريعة قبل ذلك، ولا يتطاول معاكساً، أو مبتزاً، أو مثيراً لأزمة أخلاقية قد تنهي كثيراً من طموحاته، وربما مستقبله.. علينا أن نكون واعين لما هو قادم.

د. أحمد الجميعـة

(الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *