البعد الدولي لماكرون .. والسياسات الجديدة

إن زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للولايات المتحدة في الشهر الماضي تعكس كثيرا من التناقضات، فعلى الرغم من مشاعر الصداقة، فإن برنامج عمل ماكرون ولهجة خطابه كانا تقريبا متعارضين بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى مع ترمب، ولكن قيادة ماكرون تتعرض لتحدٍّ أكبر، علما بأن كيفية إدارته لذلك التحدي قد ترشدنا إلى كيفية تحقيق تقدم فيما يتعلق بالسياسات الليبرالية الديمقراطية.

لقد تكلم ماكرون بوضوح وهو يخاطب الكونجرس الأمريكي باللغة الإنجليزية، حيث دافع بقوة عن نظرة عالمية ذات بعد دولي، كما دعا إلى إنشاء مؤسسات دولية أقوى، وإعادة الالتزام بنظام تجارة عالمي قائم على أساس القواعد والأحكام، إضافة إلى تبني العولمة بشكل عام.

لقد أشار ماكرون كذلك إلى أنه سيسعى إلى عمل حملة على المستوى الأوروبي لانتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019. وكديمقراطي هو يؤمن بأن تعزيز الاتحاد الأوروبي يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع تطوير فضاء سياسي حقيقي أوروبي. في وقت تتزايد فيه مشاعر القلق والتوتر؛ بسبب تدهور وضع الليبرالية ومستقبل الديمقراطية الاجتماعية وتصاعد المشاعر القومية وردة الفعل العكسية ضد العولمة، فإن موقف ماكرون الثابت ذا الطابع العالمي موقف نبيل. وفي واقع الأمر، فإن ماكرون نفسه قد قرر أن يقفز للمجهول، وذلك من خلال عالم “السياسات الجديدة” في الغرب، وهو عالم لم يعد يعكس بشكل كامل التنافس بين أحزاب كبرى من يمين الوسط ويسار الوسط، ولكن هل انقضى زمان الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين بسبب السياسات الجديدة؟

سيكون من الخطأ أن نصف ماكرون، الذي عمل وزيرا في حكومة سلفه الاشتراكية فرانسوا أولاند على أنه وبكل بساطة ينتمي إلى الوسط، فعلى الرغم من أنه تحرك في اتجاه الوسط، فإنه لم يلتحق بأي من أحزاب الوسط التقليدية الصغيرة، ولكنه عوضا عن ذلك أنشأ حركة خاصة به.

لقد وصف ماكرون منذ البداية تلك الحركة ـــ التي أطلق عليها اسم “إلى الأمام” ـــ بأنها ليست يمينية وليست يسارية ــــ متجنبا مصطلح “الوسط”، واليوم هو يقول إن حركته على اليمين وعلى اليسار، ما يعكس رغبته في كسب الناخبين التقليديين ليسار الوسط ويمين الوسط. لو تلاشى الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين، فإن السؤال هو: ما الذي سيستبدله؟ ومع وجود العولمة في قلب الجدل السياسي في معظم البلدان، فإن الجواب قد يبدو هو الانقسام بين القوى العالمية والقوى ضيقة التفكير.

وطبقا لهذا التفسير، فإن ماكرون يقود حركة مؤيدة للعولمة “ومؤيدة لأوروبا”، وأولئك الذين يعارضونه سواء كانوا على اليمين أو على اليسار هم يرتبطون بمعارضة مشتركة للانفتاح الاقتصادي، وفي واقع الأمر في أقصى اليمين وأقصى اليسار يبعثون برسائل اقتصادية متشابهة.

في الوقت نفسه فإن أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط السياسية الحالية ـــ في فرنسا وفي طول الغرب وعرضه ـــ عادة ما تضم مجموعات ذات توجه عالمي، وأخرى يتملكها الشك من العولمة، ولو أصبحت العولمة هي الانقسام الانتخابي الرئيس في الدول الغربية، فإن المنطق يقتضي احتمالية انقسام هذين المعسكرين، حيث يقومان بتشكيل عائلات سياسية جديدة.

لكن بينما أعتقد أنه ستكون هناك بعض الحركة في ذلك الاتجاه، فإن من غير المرجح أن يختفي الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين. ستستمر الأحزاب التقليدية في الانخراط في جدل يتعلق بالقضايا المتعلقة بتوزيع الدخل، بما في ذلك التدرج في الأنظمة الضريبية والنطاق والأهداف الصحيحة للسياسة الاجتماعية. إن “منصة” العولمة فقط لن تكون قوية لدرجة أن تكون هوية لحزب سياسي كبير.

إن هذا يعني أنه في السنوات المقبلة سيضطر ماكرون إلى أن يتحالف بشكل أوثق مع يمين الوسط أو يسار الوسط. إن الظروف الخاصة التي مكنته من الفوز بانتخابات عام 2017 ـــ يسار وسط فقد مصداقيته، ومرشح يمين وسط فقد أهليته بسبب الفضائح- لن تتكرر مجددا، ما يعني أن على ماكرون أن يصبح قائدا عالميا صاحب توجه يساري أو قائدا عالميا صاحب توجه يميني.

إن واحدا فقط من تلك الخيارات يبدو كخيار يمكن الحفاظ عليه، فالسياسات التقليدية ليمين الوسط لن تتوافق بسهولة مع النزعة العالمية القوية، ولو تم دعم العولمة بأبعادها المختلفة من خلال أغلبية شعبية، فإنه يجب أن تصاحبها سياسات اجتماعية عصرية، تقدم المساعدة الفعالة لمن يحتاج إليها، وفي وقت يستمر فيه الاضطراب الاقتصادي، فإن هذا سيصبح أكثر أهمية.

إن الانفتاح الاقتصادي يتطلب تضامنا اجتماعيا، وهذا لا يعني حماية وظائف محددة من المنافسة التجارية أو الابتكار التقني، بل يعني مساعدة الناس على التأقلم مع التغير المستمر، وذلك من خلال تقديم الموارد اللازمة لجميع المواطنين، مثل التعليم والرعاية الصحية التي يمكن الحصول عليها بسهولة، والدعم خلال هذه المرحلة الانتقالية؛ أي – باختصار – أن أي موقف شعبي مؤيد للعولمة يجب أن يرافقه عقد اجتماعي جديد ـــ بدعم من الموارد العامة ـــ يحظى بموافقة أغلبية كبيرة، وإلا فإنه سيكون من الصعوبة مقاومة دعوات القومية الجديدة.

بينما يكمل ماكرون إصلاحات الضرائب وسوق العمل الضرورية، التي بدأ فيها بالفعل، فإن عليه التعامل مع هذا التحدي، وفي ظل هذا التحول في النموذج السياسي، فإن أولئك الذين يفضلون الانفتاح سينتصرون على الأحادية القومية فقط في حالة تبنيها كهدف رئيس لهم مقاربة عصرية للتضامن الاجتماعي.

كمال ديرفيس

(الاقتصادية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *