«نوبل» في ميزان الأخلاق

في مقالتي السابقة اعتقد البعض أني أتحامل على الرّجل؛ لأني أثرت موضوع التحرش عبر قصتيْ بيل كوسبي وطارق رمضان، وكان بإمكاني أن أعطي أمثلة إضافية عبر العالم، من الهند إلى روسيا، إلى أميركا، ملامسة النخبة والمشاهير ورجال السياسة، الذين أسقطوا بسبب سلوكهم غير المسؤول تجاه نساء نكرات، لكن مساحة مقالي لا تسمح بالتوسع، ولا بسرد هذه القصص من دون التركيز على فعل التحرش في حد ذاته، وانتهاك جسد الآخر بتبريرات واهية.

الذي أعادني إلى الموضوع ثانية هو إلغاء جائزة نوبل للآداب هذه السنة؛ بسبب فضيحة تحرش، ليس بطلها أحد أعضاء الأكاديمية، لكن زوج إحدى عضواتها، وبما أن هذه الفضيحة تلامس المجتمعات كلها، وتتعامل معها بالتكتم والتستر نفسيهما تقريبا، فإن الزوجة الشاعرة «كاتارينا فورستونسون» ذات السمعة الطيبة، وجدت نفسها متهمة في مواجهة الإعلام الغربي، ولا شيء شفع لها لا مستواها الثقافي ولا مكانتها العلمية، بما أنّها تستّرت على زوجها المتحرش على مدى سنوات، وهذا ما شجعه ربما على ممارسة هوايته الغريبة من دون أن يردعه أي رادع، بما أنه استخف حتى بولية العهد الأميرة فيكتوريا وطالها بسلوكه السيئ، وهذا الموضوع أسال كثيرا من الحبر إعلاميا بغية قراءة نوع العلاقة، التي جمعت المصور الفرنسي وولية العهد.

الخلاصة أن أكاديمية علمية مرموقة بحجم أكاديمية نوبل، التي لم تهزها الانتقادات اللاذعة لبعض الأسماء التي توجتها بالجائزة، جاءت هذه الحادثة لتزلزل عرشها تماما، حتى بات الأمر يستدعي إعادة نظر جادة في كل بنيانها الداخلي؛ بدءا بالمسار الأخلاقي لأعضائها، إلى مبدأ التقييم للأشخاص الذين يمنحون الجائزة.

وما أثار مزيدا من الضجة انهيار المنظومة الأخلاقية لبعض أفراد النخبة، والخوف من تزايد انتشاره، وهذا مؤشر أكثر من خطير لمستقبل ليس فقط الواجهة العلمية لجائزة بحجم «نوبل»، بل للأدمغة التي تعتبر محركات حضارية للعالم.

تكتم الزوجة على زوجها لا يختلف عن أي زوجة أخرى لا تملك مستوى كتارينا، إذ قليلات هن النساء اللواتي يخترن الانفصال عن زوج سيئ حتى إن كانت خساراتهن كبيرة على المستويين المادي والاجتماعي. ففي الغالب الخسارات هي التي تكمم أفواه النساء في هكذا مواقف.

السؤال الآن: هل يمكن لإدارة «نوبل» أن تعيد الهدوء إلى معقلها، وتجد من يعوِّض الأكاديميين المستقيلين، وتستعيد صدقيتها التي ضعفت خلال السنوات الأخيرة؟

بالتأكيد ستفعل، لكن الملاحظ جيدا هو أن هذه الجائزة ستدخل مرحلة مختلفة من عمرها الطويل، ولعلّ هذه الحادثة التي هزتها إنّما حدثت حتى تتم عملية تنظيف داخلية وضخ دماء جديدة في عروقها لتولَدَ من جديد بحلة جديدة غير الحلّة القديمة المثقلة بالشبهات من كل نوع.

فضيلة الفاروق

(الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *