الدخول إلى عالم الدكاترة

في عام 1975 شكل الملك خالد بن عبدالعزيز أول حكومة في عهده، وتميزت هذه الحكومة بأنها ضمت أكبر عدد من الدكاترة الذين انتقل معظمهم من قاعات التدريس في الجامعات إلى مقاعد في مجلس الوزراء، يحملون حقائب لوزارات أصبحت ذات أثر بالغ في حركة التنمية التي تلت ذلك العام مع ما سمي بالطفرة النفطية الأولى.

الأثر غير المباشر لهذه التشكيلة الوزارية كان في قيام سباق محموم تجاه الحصول على شهادة الدكتوراه، خصوصاً بين الموظفين الحكوميين، إذ اعتبرت هذه الشهادة تذكرة مرور سريعة إلى الترقية الوظيفية، وربما حلم الوزارة أو وكالة وزارة على أقل تقدير. وبدأ البحث عن أقصر الطرق وأسهلها لنيل اللقب، وبسرعة مذهلة نشأت عدة دكاكين في دول عربية وأجنبية لتلبية الطلب المتزايد وبأسعار في متناول الكثيرين في السعودية ودول الخليج الأخرى، وذلك بالانتساب والمراسلة والعلاقات الودية أحياناً. كانت متطلبات التخرج تنحصر في الغالب في بعض الحوالات المالية وشحنات الأجهزة المنزلية، وربما زيارة أو زيارتين إلى العاصمة المقصودة، على رغم أن الجامعة المعنية قد تكون في الأرياف، وقد لا يحتاج طالب اللقب لزيارتها إلا لالتقاط الصور التذكارية في مراسم المناقشة الشكلية ومنح الشهادة، وليس من الضروري بالطبع أن يكون قد اطلع على فحوى الرسالة. ويستفيد سماسرة هذه العمليات من اتفاق في إطار الجامعة العربية بالاعتراف المتبادل بكل مؤسسات التعليم العالي في كل الدول العربية وبشهاداتها بالطبع.

وفي عصر الإنترنت فإنك لا تكاد تفتح متصفحك حتى تنهال عليك الإعلانات من كل حدب وصوب تغريك بشهادات متنوعة في كل التخصصات وكل الدرجات، وكأنها تقول لك «شهادة دكتوراه في خمسة أيام من دون معلم». وأخيراً ظهرت مؤسسات وهمية لا وجود لها إلا على الفضاء الإلكتروني، مثل «فيدرالية أصدقاء الأمم المتحدة»، وهذه الأخيرة تقيم في كل عام حفلاً في القاهرة توزع فيه ألقاب الدكتوراه الفخرية وسفراء النوايا الحسنة على عدد من أنصاف المشاهير ورجال الأعمال، وهذه الفئة الأخيرة هي التي تمول الحفل من دون أن تدري.

ولمواجهة هذا الطوفان «الدكاتري» كان لا بد على وزارة التعليم العالي الحديثة التكوين (قبل الدمج) من وضع نظام لمعادلة الشهادات الجامعية، وتشكيل لجنة علمية في الوزارة تقوم بفحص الشهادات المقبلة من خارج الحدود، بغرض حماية النظام التعليمي الجامعي ومؤسسات الدولة من الزيف المتمثل في حاملي شهادات لا يحملون علماً ولم يقدموا جهداً علمياً أصيلاً يبرر حملهم لهذه الألقاب، ولاحقاً اضطرت اللجنة تحت ضغط الكثرة وحرج الاتفاقات العربية للخروج بحل وسط يسمح بمعادلة بعض الشهادات العربية لأغراض الترقية الوظيفية، ولا يسمح لحامليها بالتدريس في الجامعات، وفي الوقت نفسه قامت هيئات أخرى متخصصة لبعض التخصصات ذات الطابع المهني بالقيام بالدور نفسه للطب والمهن الصحية والمحاسبة والقانون والهندسة.

الطريف أن كثيراً من الدكاترة الذين امتلأت بهم أروقة الوزارات والأجهزة الحكومية، لم يكونوا في حاجة حقيقية لها للترقية، وإنما حصلوا عليها لتحقيق الوجاهة بفخامة اللقب الذي يسبق أسمائهم.

المشكلة الحقيقية التي ظهرت في الأعوام التي تلت عام تشكيل حكومة الدكاترة، أن كثيراً من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات (وهي كثرة لا تعني الغالبية) اعتبروا أنفسهم مرشحين محتملين ودائمين للمناصب العليا، وبدأوا يعطون اهتماماً بمشالحهم وتقديم الاستشارات للجهات الحكومية بأكثر ما يؤدون واجباتهم الأكاديمية في التعليم والبحث العلمي، بل أن هذا البعض قد يقضي سنوات عمله الجامعي منتظراً هذه الفرصة التي قد لا تأتي وهو لم يصدر مؤلفاً رصيناً ولم ينشر بحثاُ علمياً، وربما لم يحقق ترقية علمية ولم يتجاوز مرتبة الأستاذ المساعد، على رغم أنهم من مبتعثي الجامعات نفسها، وكان من المعيب أن تجد أستاذاً جامعياً عاد من البعثة وهو لا يحسن الحديث بلغة البلد التي درس فيها، إلى درجة إثارة التساؤل حول كيفية حصوله على الدرجة! وكيف كتب بحث التخرج! وكيف ناقشه! وهذه الفئة شهاداتهم معادلة ربما في شكل آلي.

وكما قد تتوقعون فإن أزمة «الدكتوراه» تتضح في شكل أكبر وأعمق في تخصصات العلوم الإنسانية، فلا توجد مشكلات كثيرة في تمييز شهادات الأطباء والمهندسين والفيزيائيين، ولكن الأمور تختلط حين يتعلق الأمر بتخصصات الآداب والاجتماع والتربية والعلوم الشرعية، وقد أسهمت بعض جامعاتنا الإسلامية بإغراق السوق بحاملي اللقب ممن لم تكن أبحاثهم ذات أصالة أو جدة علمية، وإذا راجعتم عناوين الرسائل الجامعية ستجدون أن غالبيتها تبحث في تحقيق كتب تراثية بدلاً من البحث في حل الإشكالات الفقهية المعاصرة.

ومن المؤكد أن الأزمة ثقافية بامتياز وهي خاصة بنا في الوطن العربي ودول العالم الثالث، حيث نعتبر أن هذه الشهادة هي «سدرة المنتهى» في طلب العلم، وأن حاملها يحصل على حصانة اللقب بصفته العالم الذي لا يشق له غبار، بينما أن العلماء الحقيقيين يعرفون أن شهادة الدكتوراه إنما هي درجة التأهيل للقيام بمزيد من الأبحاث وطلب العلم، ولحسن الحظ فإن جامعاتنا تزخر بمثل هؤلاء العلماء الذين يثرون حياتنا العلمية والأكاديمية والثقافية، بما يقدمون من دون أن يؤثر عليهم أو يحبطهم وجود هذا الكم من «غثّ» المزيفين. والعلماء الحقيقيون هم أكثر الناس زهداً بالألقاب والتسمي بها، على رغم أنهم هم الأكثر استحقاقاً للتوقير والاحترام.

مناسبة الحديث في هذا الموضوع هو نقاش ساخن دار على تويتر الأسبوع الماضي وكنت طرفاً فيه، وخرجت من النقاش بتأكد قناعتي بضرورة وجود نظام معادلة الشهادات الجامعية كمعيار للجودة في التعليم العالي، لكني مقتنع أيضاً أن هذا النظام يحتاج إلى تطوير نوعي يراعي ما يحدث في العالم من تطورات تتعلق بالتعليم عن بعد، والتعليم بالواقع الافتراضي، وأن يكون المقياس هو جدارة وسمعة المؤسسة الأكاديمية المانحة للقب وأصالة البحث الذي منحت الدرجة بموجبه.

كما أن التوجه لاستقلال الجامعات تجعلها مسؤولة عن اختيار أعضاء هيئة التدريس على مسؤوليتها كما هي مسؤولة عن مستوى مخرجاتها، وتطور الإدارة الحكومية سيجعل من الجدارة المبرهنة هي المقياس لتولي المسؤولية والترقي وليس الشهادة، وتطور الوعي العام سيجعل الناس قادرين على تمييز المزيف من الجاد الأصيل.

كل هذه عناصر تستوجب إعادة النظر بالنظام بغرض تقويته وجعله موافقاً للعصر، بدلاً من أن نكون أسرى لنصوص كتبت مراعاة لظرفها الزمني.

سلطان البازعي

(الحياة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *