ماذا يعني السماح بالسينما؟

مع عودة تشغيل دور السينما إلى السعودية يوم الأربعاء الماضي لتقدم الأفلام العالمية بعد عقود من «المنع»، لا بد من التذكير بأن هذه الخطوة وهي متوافقة مع رؤية السعودية للمستقبل، لا تعني فقط الترفيه كما قد يظن البعض. السينما صناعة متكاملة الأركان من حيث مردودها المالي وإسهامها في خلق فرص العمل. تابعت لقاء تلفزيوني أجرته قناة «العربية» مع الفنان السعودي عبدالإله السناني وأعتقد أن من تابع اللقاء واستمع إلى ما تناوله هذا الفنان الموهوب من تفاصيل تتعلق بهذه الصناعة تغني عن قراءة هذه المقالة.

لنستعرض بعض الأرقام المتصلة بما نتحدث عنه في شكل عام، ونختار كمثال هوليوود عاصمة السينما في العالم. الدخل المالي لقاعات السينما من مبيعات التذاكر فقط يتجاوز ١٥ بليون دولار سنوياً، سواء في الصالات الواقعة داخل أميركا أم خارجها، وهذه لا تشمل ما يتم عرضه عبر «نتفلكس» أو أي تطبيق إنترنت. الحقيقة الأهم أن النسبة الكبرى من هذا الدخل (أكثر من ٦٠ في المئة) أتت من أفلام يسمح لعموم الجمهور بمشاهدتها، بمعنى أنها لا تحوي مقاطع مثيرة جنسياً أو تحمل عنفاً دموياً مبالغ به. تفوق الأميركان بالطبع لم يأت من فراغ أو بالصدفة. في الولايات المتحدة وحدها يوجد أكثر من ٧٠٠ معهد أو جامعة تمنح شهادات في تعليم الدراما والتمثيل والإخراج. عدد العاملين في صناعة السينما في أميركا يتجاوز ٣٧٠ ألف أميركي وأميركية، نسبة قليلة منهم يعملون من دون تفرغ. أما من يقود هذه العربة الهائلة فشركات الإنتاج بالمئات، لكن هناك أربع شركات تتصدر إنتاج الأفلام، ومعظمنا معتاد على أسمائها وهي على الترتيب بحسب الدخل السنوي، شركة دريم وركس التي أسسها المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ قبل عشرين عاماً مع اثنين من أصدقائه، تليها «باراماونت»، ثم «ديزني» وأخيراً «سنشري فوكس».

دعونا نفصّل عدد فرص العمل وفق تفرعات العمل السينمائي، والحديث هنا لا يزال عن هوليوود. يعمل تسعة آلاف مختص في الملتيميديا والأنيميشن. هناك ٤٧٠٠ شخص يعملون في الغرافيك. تحتوي هوليوود وتفرعاتها على ١١ ألف ممثل وممثلة و٢٣ ألف منتج ومخرج بمختلف المستويات. يعتبر جورج لوكاس وستيفن سبيلبرغ أكثرهم ثراء بثروة تزيد عن ثمانية بلايين دولار. في هوليود ٥٤٠٠ مؤلف ومراجع، وستة آلاف أخصائي فني في الصوت والفيديو، كما يوجد ٦٧٠٠ مصور و١٢ ألف مراجع ومدقق للأفلام قبل العرض. تشكل الفئة العمرية من ١٦ إلى ٣٤ سنة نسبة ٥٤ في المئة من إجمالي عدد العاملين. هذه الأرقام ليست مستغربة عندما نعلم بأن إنتاج فيلم سينمائي واحد هناك يحتاج في المعدل إلى مشاركة أكثر من ٢٦٠٠ شخص في تخصصات متنوعة، إضافة إلى كل ذلك هناك مستفيدون من هذه الصناعة بطرق غير مباشرة ولم نتحدث عنهم مثل مقدمي الخدمات المساندة كالنقل والسكن والغذاء والتجميل وصناعة الألبسة والبناء.

صحيح أننا لا نتوقع أن يصبح لدينا في السعودية صناعة سينما بهذا الحجم الموجود في الولايات المتحدة، بل وحتى فرنسا لم تتمكن من منافسة هوليوود غير أن لدينا الفرص الكبيرة لبناء صناعة متوازية مع ما نملكه من تراث ومؤلفات وجمهور. فرنسا نفسها لديها صناعة ملائمة وكذلك إيطاليا، وعلى المستوى العربي لا يمكن تجاهل السينما المصرية على رغم ما آلت إليه الأفلام المصرية أخيراً من هبوط واضح، سواء في الإنتاج أم في جودة الدراما. لدى لبنان بعض المحاولات، لكنها لا ترتقي إلى العالمية وبخلاف مصر ولبنان لا يوجد حقيقةً أي سينما عربية تستحق الاهتمام. لم يسعفني الوقت لاستعراض هذه الصناعة في الهند أو اليابان وكلاهما يعتبر من رواد هذه الصناعة عالمياً.

ما الذي نحتاجه لبناء إنتاج سينمائي قد يصل بعضه إلى العالمية؟ في السعودية مثلاً، لدينا فرصة للبدء من حيث توقف الآخرون. نحتاج الى ممثلين ومخرجين على مستوى مهني عال، إضافة إلى توفر القصة المثيرة. هنا تخضع المسألة إلى التعليم والتدريب والموهبة، وهذا قد يتوافر مع تأسيس البنى التحتية لهذه الصناعة ومنحها ما تستحقه من اهتمام، خلاف مجرد عرض الأفلام الأجنبية في القاعات. هناك نقطة في غاية الأهمية عند تبني فكرة إنتاج فيلم سينمائي إذ لا يكفي أن تأتي بقصة أو رواية مهما بلغت في جمالها أو إنسانيتها وتظن أنها ستتحول إلى فيلم ناجح ما لم يوجد لحظة إثارة في هذه القصة تفاجئ الجمهور وتحبس أنفاسه. لذلك، فموضوع التأليف وكتابة السيناريوهات يعتبر مفصلياً في نجاح أو فشل هذه الأنشطة.

شاءت الظروف قبل بضع سنوات أن تحدثت إلى منتج أميركي في أحد مطاعم لوس أنجلس بالقرب من مكتبه، وشركات الإنتاج في منطقة «بيفرلي هيلز» بالمناسبة منتشرة انتشار البقالات لدينا. قلت له إنني سعودي ونملك في السعودية قصصا وروايات هائلة وتاريخا مليئا بالأحداث والتحولات. بعض هذه الأحداث تزامن مع ظروف المنطقة شديدة التقلبات في العقود القليلة الماضية، ومنها موجة الإرهاب التي عانينا منها كثيراً. هناك عدد من الأمهات ممن تفاجأن بوجود أبنائهن ضمن خلية إرهابية يفجرون أنفسهم في بلادهم ويقتلون أهلها، لماذا لا تتجهون إلى هناك وتبحثون عن رواية كهذه لعمل فيلم؟ قال لي مجرد قصة كهذه لا تكفي، ثم استطرد هل يوجد في القصة لحظة أو لحظات تصدم الجمهور؟ قلت له وهل هناك صدمة أكبر من هذه؟ قال نعم. سرد لي قصة تحوي لحظة صادمة لم أتوقعها ووقعت أحداثها بين بطلي الرواية وهما شاب إسرائيلي وفتاة فلسطينية وانتقلت مشاهد التصوير بين فلسطين وفرنسا فأدركت ماذا كان يقصد.

الأفلام العظيمة وسيلة تأثير كبرى وناقل مهم لثقافات الشعوب وقيمها وعامل حاسم في التحول والتغيير. لا أتصور وجود دولة أو شعب بحاجة إلى هذه الوسيلة أكثر من شعوبنا العربية والشعب السعودي تحديداً الذي يسير بسرعة هائلة نحو الغد الواعد. كما أن الاستثمار في هذه الصناعة في السعودية مثلاً ومع توفر السيولة المناسبة قد يساعد على تعاون السعودية مع مصر بما يفضي إلى إعادة هيكلة السينما المصرية العريقة إلى الوهج، وذلك عبر تطوير الأستوديوات وتأمين الأجهزة والإمكانات الحديثة، بسبب توفر سيولة جديدة وإشراك محافظ مالية كبرى.

واختتم بالإشارة إلى العلاقة المباشرة بين الفن والأدب، ذلك أن وجود قاعدة لصناعة الأفلام محفز كبير للإنتاج الأدبي من الروايات والمؤلفات. يتسابق المنتجون في العالم للفوز بتوقيع مذكرة تفاهم مع أديب ومؤلف كتب رواية عظيمة، بل ويقبلون اشتراطاته بالحصول على نسبة مئوية من دخل الفيلم بعد العرض، إضافة إلى الثمن الباهظ لشراء الكتاب.

هذا استعراض مختصر لأهمية الفن والدراما في المجتمعات المتقدمة التي قطعت أشواطاً هائلة في هذه الأنشطة وتنوع مصادر الدخل لديهم، حتى تجاوز الدخل السنوي للميديا في الولايات المتحدة قبل عام إجمالي دخل قطاع التصنيع بجميع تفرعاته احتواء على صناعة الأسلحة والطائرات والسيارات والمنتجات الاستهلاكية الأخرى.

فهد الدغيثر

(الحياة)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *