الغوطة: نزيف الإنسانية والشر الكامن

نزوع النفس البشرية نحو الشر ليس وليد الموقف الآني، وإنما هو تعبير عن تراكم لاستجاباتها لمتطلبات الأنا في الواقع دون ضبط أو إذعان لأي نداء أخلاقي، سواء كان من منطلق إنساني أو ديني يضبط هذا النزوع الغريزي.

فالشر يبدأ من نقطة الأنا عندما يرى الإنسان ذاته منفرداً ليس في العالم الشهادة فقط وإنما في إدراكه له. لذلك قد نجده عند الإنسان البسيط الذي دوماً ما يسعى إلى أن يفضل راحته على حساب راحة الآخرين. فكل إنسان قد يصير وحشاً حتى لو كان بسيطاً إذا استأنس تفضيل غرائزه النفسية على حساب الآخرين. هذا الفساد الذي إذا ما وجد البيئة الاجتماعية التي ترعاه وتنميه ينتج أفعالاً غير عادية من الإفساد والجور على الآخرين، فالشر يبدأ دوماً من نازع داخل يتضخم وقد لا يعطي مؤشرات خارجية له وينتهي فعل اجتماعي مفزع.

الشر الكامن داخل النفس البشرية يتجسد في أبشع صوره عندما يصل الإنسان إلى حالة علمنة مشاعره، فيفصل فصلاً تعسفياً بين نوازعه الغريزية وكل قيمة تسمو عليها وتحقق الإنسان الارتقاء الوجودي عن الكائنات الأرضية الأخرى، وهو نزعة استعلاء روحي فطري غير مرتبط بانتماء عقائدي معين، وحينما يحدث هذا الفصل يتحول الإنسان إلى ذئب لأخيه الإنسان وفق تعبير توماس هوبز، فيحتكم منطق الغريزية في أفعاله وقراراته، فما أن يصل الإنسان إلى هذا الحد فإنه ليس في حاجة إلى الشيطان.

بل إن هذا الشر لا يشترط أن يمارسه أصحاب الانحرافات النفسية المرئية، فقد شهد ستة من المحللين النفسيين أن «اّيخمان»، رئيس جهاز البوليس السري في النظام النازي والمسؤول عن وضع خطة الحل الأخير التي استهدفت إبادة اليهود في المستعمرات إبان الحرب العالمية الثانية، عندما تم القبض عليه وُجِدَ أنه إنسان طبيعي بل أكثر من طبيعي بعد فحصه، هذا إلى جانب أن الكاهن الذي زاره بانتظام في السجن قال عنه إنه صاحب أفكار إيجابية للغاية.

هذا النازع نحو الشر يتولد داخل النفس البشرية غالباً من دون دراية بمن حوله، حتى أنهم يندهشون بردة الفعل في حال سمح لنازع الشر أن يجد طريقه في الواقع. فكل إنسان قد يصير وحشاً، وإن هذه تبدو إمكانية كامنة، فالمسلمون في البوسنة والهرسك والصرب والكروات قضوا معظم حياتهم تجمعهم عادات مشتركة، حتى جاءت لحظة معينة أصبحت مواتية لبروز الشر الكامن من دون إنذارات مواتية للاكتشاف، بل كان الاكتشاف بأصعب الطرائق وأبشعها. لذلك يرى بعض خبراء المخاطر أنه يبدو بأن الافتراض أن الناس عرضة للتجنيد في خدمة الشر هو أضمن الرهانات.

هذا الشر الكامن، تجسد في حالة الانتهاكات التي يمارسها نظام بشار الأسد وحلفاؤه بقيادة النظام الإيراني وأذرعه، سواء «حزب الله» أو المليشيات الشيعة الأخرى، والنظام الروسي، ضد الشعب السوري منذ قيام الثورة السورية عام 2011 حتى الآن. وقد تمثل أخيراً في الغوطة الشرقية التي شهدت استباحة الدم من قبل النظام السوري، بل واستئناس للقتل الذي لا يعبأ بأنين الضحية، فحصيلة القصف السوري- الروسي المشترك مقتل أكثر من 900 مدني بينهم 188 طفلاً منذ بدء قوات النظام السوري حملتها العسكرية على الغوطة، نتيجة قصف بالبراميل المتفجرة على بلدات عدة. فقد اتفقت أطراف متصارعة على الساحة السورية أن قيمة الإنسان هي خارج معادلة الصراع، بل هو جسد هذا الصراع، كلما نزف دماً تحققت مكاسب على الأرض. هذا الشر يجمع بين أصحاب عقيدة دينية وأيديولوجيا علمانية، فعلى رغم الاختلاف بين حزب البعث السوري ذي التوجه العلماني القومي، الذي ينحي مسألة العقيدة الدينية جانباً بالفصل بين الدين والسياسة، وبين النظام الإيراني الذي يتبنى المذهب الأثني عشري ويدير السياسة تحت وصاية عباءة ولاية الفقيه الدينية، إلا أنهما اتفقا على نزيف الإنسان السوري. ولعل هذا يعود إلى أن الوعي حينما يخضع لعلمنة الوجدان، يفصل المشاعر عن السلوك، وقد يمارس الشر مع ممارسة شعائر ومظاهر دينية.

بالطبع هناك نسبة كبيرة من البشر تتمتع بالقدرة على ممانعة الشر وبنفور كاف منه، بحيث تستطيع مقاومة إغراءاته أو تهديداته. تتأسس تلك المقاومة على درجة يقظة كافية لإدراك هذه الإغراءات باعتبارها من وضع الشر. ويبدو أن بحث الإنسان في ذاته هو وسيلة آمنة لتجنب الوقوع في شرك ممارسة الشر، بتتبع مسارات توغل الشر بداخله ومحاولة سد منافذه، مستعيناً على ذلك بإيمانه الديني وبانتمائه الإنساني.

حسن محمد شافعي

(الحياة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *