لم يعد تلاقح الأفكار والأماني يدور بين البشر في إنسانية محِبة، بقدر تلك الأنانية في سيل الصدامية التي تقضي على الأخضر واليابس. فلا نرى سوى تضخم الذات، التى لا ترى سوى ذاتها في مرآة مكبرة..

لم يكن تزاحم السحب على عصابة رأسها، سوى تأصيلا لعمامة أمهاتنا حينما يعصبن رؤسهن بتلك العصابة المحملة بالوقار وبالشرف، مزدانة بغرس المشقر يرف فوق الهامة وللمشقر زهو ودلالة من رفيع الشرف. ومشقر أبها يرف عاليا دائما بين السحاب ولذا يهوي السحاب متهاديا يقبل هامتها التي تدفع بالأبطال وبالكتاب وبالعلماء وبأبطال الحرب والسلام من رحم لا ينضب على الإطلاق، فهل من نظرة تأمل فينا وفي أهلنا وإلى عطر ماضيهم الذي يضج به التاريخ على مستوى الوطنية والقيم والأعراف والعادات والتقاليد والشيم التي بدأت تتآكل بين الأجيال الحاضرة في سائر وطننا العربي، والذين لا تغوص أقدامهم في عطر ماضيهم. وأبها مثلها مثل كل مناطق المملكة في كل ماذكرناه في الذاكرة العربية، إلا أنها هي صعيد الجزيرة العربية، وكما يؤرخ الجغرافيون: أن كل جنوب في سائر بلاد الله هو مكان مرتفع يسمى صعيد. ودائما أبدا نجد أن بلاد الصعيد في أي بلد هو مكان التمسك بالأرض وبالماضي وبالعادات وبالتقاليد ولذا فحاضرة بلاد عسير هي ذلك الديدن الذي ينهل منه أهلها على مر العصور.

لم تكن أبها إلا تجمع عائلات يعرف بعضهم بعضا يتألمون سويا ويفرحون سويا وينشدون الأغاني في رقصات عيدهم في صف واحد لا يلوون على شيء سوى الحب والتآلف، ينهل الأبناء من رحيق الماضي المعطر بعبق بالكادي “مشقر المجد” أعتقد أن المدينة قد زحفت على هضاب عالمنا العربي وعلى وديانه وأعتقد أن أبها هي الوحيدة القادرة على طرد العزلة والدائرية بين شوارعها وفي ميادينها، لأنها أرض الصعيد القاهر لكل زيف أو تزييف وخاصة في زماننا هذا المليء بالتشاحن الذي لا يدع مكاناً للتماس بين الدوائر. في الماضي القريب كانت بيوتنا في “راس الطلعة” ذلك المطلع الوعر وفي قمته، يعصب عمامته بسحابة كثيفة، ربما تهطل عليه بوابل من الخير، وحتما ستمطر إلا أنه لا يدري متى، وكيف!

“في يومنا هذا يعجز الناس عن الوصول إلى راس الطلعة، وكل يحاول في سباق محموم، لكن الكثير يتساقطون في الطريق، فمنهم من تخور قواه، ومنهم من ينظر إلى أعلى فيفقد الأمل، لهول المنظر في عمق الأفق، وتُحبَط الأماني في جوف الصدور المعتمة! فيعلق في منتصف الطريق بين ربوة عالية وقاع سحيق. ومنهم من يرتضِي بحياة “الحَضَن” السهل، فلا يحاول، ولا يخطر بباله حتى شرف المحاولة!

“في راس الطلعة” أناس كثيرون وصلوا وسكنوا وتجانسوا، وأناس لم يمكثوا فيها سوى لحظات، ثم يتهاوون كأوراق الشجر في ليلة خريف، إلا إذا كانوا على شاكلة أجدادنا في أبها الذي يتمنى الواحد والواحدة منهم نجاح الآخرين فتتوالى زيارات النسوة وكل واحدة منهن تحمل في يدها صرة “الطبخة” وهي صرة القهوة البرية وبها ريالان، وكم كانت صرر القهوة تملأ الأواني بالبن اليمني، وكم كانت تلك الريالات تعين على حاجات الزمن. وكم كان “المئزر” حينما يطرح أرضا فيمتلئ بآلاف الريالات لكي يعين صاحب مشكلة هوت عليه لم يستطع سد مطالبها!

“ففي راس الطلعة” وريقات ترف في جوف الصخور فلا تقوى عليها الرياح العاتية، التي عهدناها دائما تلوح فوق القمم الشاهقة فتهوى بكل كائن ضعيف لا يستطيع الصمود ولا يلوي على شيء!

في يومنا هذا “راس الطلعة” مكان مريح وممتع، لكنه مهلك لأنه دائما أبدا في عراك مستمر، يعاند الريح وتقلبات المناخ فلا نرى سوى زخات تتهاوى من بين طيات السحاب، تحلب المزن من ثدي السماء فلا تقوى!. “والطلعة” بلغة أهالي عسير هي أعلى نقطة في أعلى الربوة. فبين القاع والقمة في عالمنا هذا أمور وصراع دنيوي رهيب، يأخذ الناس إلى أبعد مدى من التوهانات غير المحدودة، والتي تعمل على تفسخ العلاقات الإنسانية. في يومنا هذا حتى بات الأخ لا يرى أخاه إلا لمحة الزمن اللاهثة، في إيقاع متسارع أشد ضراوة من إيقاع قلوبهم الدافعة لهذا الصراع!!

لم يعد تلاقح الأفكار والأماني يدور بين البشر في إنسانية محِبة، بقدر تلك الأنانية في سيل الصدامية التي تقضي على الأخضر واليابس. فلا نرى سوى تضخم الذات، والتى لا ترى سوى ذاتها في مرآة مكبرة، لا تنتج إلا ” كاريكاتيرًا” مشوهاً لكل من نظر فيها! وما أن وصل إلى الطلعة – إن أمكنه ذلك – حتى عاد يعاني من هول البرد القارس. وسأسوق لكم مثالا على ذلك:

كان الرسام العالمي الشهير (فينسنت فان جوخ)، إنسانا رقيق الحس والوجدان، فلا يدع فقيرا ولا معوزا إلا حمل معه حسا رقيقا ووصاية محمومة بالود؛ فاشتغل بوصاية عمال مناجم الفحم وعوائلهم في قرية التعدين “واسميس”. شعر فينسنت بارتباط عاطفي قوي نحو عمال المناجم. تعاطف مع أوضاع عملهم المخيفة وفعل ما بمقدوره، كإنسان حي الشعور والعاطفة، شعبي لدرجة الذوبان، عمل على تخفيف عبء حياتهم. هذه الرغبة الإيثارية أوصلته إلى مستويات كبيرة جداً عندما بدأ فينسنت بإعطاء أغلب مأكله وملبسه إلى الناس الفقراء الواقعين تحت عنايته. على الرغم من نوايا فينسنت النبيلة، رفض أهل بلدته زهده فطردوه. فمات من ندرة الحس الشفيف والحب المفقود. صعد جوخ إلى رأس الطلعة حتى اعتلى هامتها، لكنه لم يقاوم هياج الرياح العاتية الآتية من هول القمم الطاردة لكل من تمنى صقيعها من شضف المشعار على شاكلة عصرنا هذا!

هل تغير القمم لمحات الإنسانية في وجوه البشر؟ وهل يطرد سكانها من حاول مجاورتهم في سكنى كهوفها المخيفة والحبلى بأعشاش الطيور الجارحة؟!

مسكين ذلك الإنسان الذي لا يدرك كنه ذاته، ماذا تريد وماهي حوائجها، وإذا ما أدرك ذلك أصابه نوع من الشبق الباعث على الخلل الوجداني إن جاز التعبير!

لم يعد يومنا هذا يحتمل تلك الصدامية المفعمة بحب الذات وانتفاخها، وإن قلَّبت في جوانحها ستجدها فارغة خاوية لا تحمل في ثناياها سوى الخواء الأجوف!

لم يعد يومنا هذا يحتمل علاقات المصالح، ظنا منها أنها ستصل راس الطلعة، وهذا ظن أجوف يدمر في طريقة كل ورقة خضراء ترف في حضن الجبل. لم يعد يومنا هذا يحتمل الشخصنة القائمة على الهوى والإناء الأجوف!

كانت منازلنا فيما مضى تربض في “راس الطلعة” محوطة بالتآلف المحموم بالود، ولذلك أنتجت سكانا عطائين أحبوا غيرهم فسَمَوا في هامة التاريخ.

(د. ملحة عبدالله – الرياض)